يقول الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر الأسبق ورئيس اللجنة الدينية بمجلس الشعب إن الهجرة في مفهومها الصحيح لم تكن قراراً ضعيفاً من مطاردة المشركين لتختفي الدعوة وأصحابها عن تلك العيون المحدقة وإنما كانت انتقالاً ببذور الدعوة إلي تربة صالحة يخرج نباتها بإذن ربه واتجاهاً إلي مناخ ملائم تترعرع فيه لتؤتي أكلها كل حين. أضاف أن الحرب النفسية والمادية التي شنها أعداء الإسلام علي الدعوة لم يكن القصد منها القضاء فقط علي الداعية والمؤمنين التابعين له وإنما كان أهم ما يعنيهم يومها أن تنتصر الوثنية وجندها وتنهزم هذه الدعوة الجديدة فلا يبرق لها شعاع بين أنحاء البلاء ولكنهم لم يستطيعوا اطفاء نورها لأن الله سبحانه وتعالي يأبي إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وفي مكرهم ومؤامراتهم لم يصلوا إلي شيء لأن رب الدعوة حارس لها ومؤيد رسوله "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".. لذا كان تمسك أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم بدعوتهم وتغلغلها في دمائهم وأرواحهم انتصاراً للدعوة مهما بالغ الأعداء في التنكيل بهم وأن أمثلة الإيمان والشجاعة التي ضربها أمثال بلال وآل ياسر وغيرهما إنما كانت أنماطاً صادقة الرؤي لانتصار الدعوة لدي هؤلاء المؤمنين المخلصين حتي ولو انتهي بهم الأمر إلي القتل أو الموت خلال تمسكهم بدينهم قال تعالي: "والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً وإن الله لهو خير الرازقين". أشار د. هاشم إلي أن القرآن الكريم تحدث عن الهجرة حديث الانتصار قال تعالي: "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم". أكد أن المؤاخاة التي أبرمها رسول الله صلي الله عليه وسلم مع صحابته كونت أساساً لأعظم مجتمع مثالي تألفت فيه معاني الحب والإخاء وأشرقت بين جنباته بطولة العقيدة التي حققت النصر في الغزوات وتحقق علي يديها الفتح المبين. قال إن من أهم الثمار التي خرجت بها الهجرة إبرام أول وثيقة عرفتها البشرية لحقوق الإنسان ألا وهي صحيفة المدينة انها الوثيقة الخالدة التي كانت درة في جبين التاريخ وسراجاً وهاجاً يتألق بعظمة الإسلام وسماحته. لقد أصبح مجتمع المدينة -مسلمين وغير مسلمين -مجتمعاً واحداً ولم يبق أمام الرسول صلي الله عليه وسلم إلا ترسيخ الوحدة الوطنية والتضامن بين جميع سكان المدينة من المسلمين وغير المسلمين.. وبذلك فقد أعطي بهذه الصحيفة أروع الأمثلة وأنبل الدروس في سماحة الإسلام وسمو مبادئه.. فرأي العالم نور الإسلام ورحمته بالإنسانية كلها علي أساس من حرية العقيدة. ومما عالجته هذه المعاهدة أيضاً من مبادئ كما يقول د. عمر هاشم أن من حق الجماعة معاقبة المفسد وأن يتعاون سكان المدينة ويردوا أي عدوان يوجه إليهم وأن الرئاسة العامة تكون للرسول صلي الله عليه وسلم كما نصت علي جميع الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تقوم علي أساسها دعائم المجتمع الإسلامي الجديد الذي تقوم سياسته علي الشوري كما قال الله تعالي "وشاورهم في الأمر" وقال جل شأنه "وأمرهم شوري بينهم".. ودعائم اقتصادية تقضي بالتعاون الاقتصادي التام كما جاء في الحديث "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلي جنبه وهو يعلم به". أمور أخلاقية يقول دكتور طه حبيشي أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر انه حين يأتي يوم الهجرة من كل عام يتحدث الناس حول موضوعين فمنهم من يقول إن الهجرة مظهر ضعف ومنهم من يقول إن الهجرة علامة قوة بما تستلزمه من وجوب تغيير المواقع.. وقد جاءت الهجرة هذا العام في ذكراها لتلفتنا إلي أمور أخلاقية واجتماعية نعيش فيها وندركها.. فمن الأمور الأخلاقية أن النبي صلي الله عليه وسلم قد استشعر أن الناس يكيدون له وأنهم يريدون أن يقتلوه ومع ذلك فقد انتدب علياً ابن أبي طالب ليقوم بسداد ما عنده من التزامات. يؤدي الأمانات إلي أصحابها ويدفع بالأموال إلي مستحقيها. وهذا موقف يأخذ بالألباب فما كان لبشر أن يصدق أن رجلاً من الناس يؤدي الأمانات يقبضها منه رجل باليسار ويده اليمني فيها السيف يريد أن ينهي به حياته.. ماكان لبشر أن يصدقه هذا ولولا منهج التواتر الذي نقل الخبر إلي رسول الله ما صدقناه. وفي جانب الأخلاق أيضاً أن أحد الكافرين وهو أبو جهل حين أخذته الغضبة وسأل ابنة أبي بكر: أين أبوك وصاحبه فلما قالت لا أدري لطمها حتي طار قرطها. وهنا اغتم الضارب غماً شديداً لا لشيء إلا لأنه قد خاف التاريخ أنه يسجل عليه ضرب فتاة قد احتاطت لأبيها وأخذت في أسباب الحفاظ عليه فرجا من معه أن يكتم عنه فعلته النكراء. ومن الأشياء التي تأخذ بالألباب أن الكافرين أحاطوا برسول الله يوم الهجرة يريدون قتله وما اقتحموا عليه داره لا لشيء إلا لأنهم يعلمون أن ما بداخل الدار عورة وأن ما تحيط به الجدران يجب أن يكون حرماً آمناً لما يتمتع به من الخصوصية.. هذه أمور أخلاقية تعد أمثلة لنظائر كثيرة نحتاج أن نتأملها في هذا الزمان. أضاف د. حبيشي أنه بالنسبة للجانب الاجتماعي وجدنا قريشاً تعلن قبيل هجرة رسول الله أن النبي لو قد هاجر لكانت هجرته مصدر قوة له إلي آخر الدهر والمهم حصار النبي لا يخرج. وهذه الفكرة الموجزة بسطها أن النبي إذا هاجر إلي المدينة التأم الرأس المفكر بجسد الأمة الذي سبقه إلي المدينة وحينئذ نجد البساط قد انسحب من تحت أرجل القرشيين إذ إن النبي سيلفت نظر الجميع إليه بعد أن يصير مصدراً للإشعاع في المدينةالمنورة وتفقد مكة ورجالها هيبتها الدينية. ومن ناحية أخري فإن هجرة النبي من وجهة نظر القرشيين لم تكن عملاً عشوائياً وإنما كانت عملاً منظماً تقوده الأسباب الغائبة. لقد اختار النبي المدينة أو اختيرت له وهي موقع بين مكة والشام وهو موقع حساس للغاية يعترض طريق التجارة القرشية وهي أمر مهم من جانب الاقتصاد المكي. ومن جانب آخر نجد المدينةالمنورة مكان تجمع سكاني استهلاكي ومكة تحتاج إليها لبيع بضائعها وإذا حدثت هجرة النبي والتأم الجسم بالرأس المفكر خسر القرشيون تجارتهم إلي الشام وخسر القرشيون سوقاً مفتوحة لبيع بضائعهم فيها. لقد كانت الهجرة علي كل حال ولا تزال راية بيضاء يرفعها بين الناس من يستشعر أن الناس يريدون السلام وهي سيف بتار يرفعه كل ذي قوة في وجه من يريد أن يهدد المجتمعات في أمنهم وأمانهم أو في ثقافتهم واقتصادهم. والشيء العجيب أن الله لم يرد في يوم من الأيام أن تكون الهجرة مظهر ضعف وإنما هي في الحقيقة علامة قوية والملائكة الموكلون بقبض الأرواح لا يقبلون من الضعفاء أن يحتجوا بالقهر حيث إنهم إذا فعلوا ذلك وتعللوا لتقصيرهم بقهر غيرهم لهم قالت الملائكة لهم: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"؟! والهجرة بمعني الانتقال في المكان لم يأذن بها النبي إلا في حالات الاضطرار إذ من الأخلاق أن نرتبط بأوطاننا فقد قال النبي صلي الله عليه وسلم "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية". أما الهجرة في النفس فقد حددها النبي بعبارة موجزة حيث قال "والهجرة أن تهجر ما نهي الله عنه". إنها ذكريات في يوم الهجرة وتأمل في عمق الحدث ورغبة في استنفاد الأخلاق الفردية مما يحيط بها واستنفاد السنن الاجتماعية مما يهددها أو ينال من قيمتها.. هذه هي الهجرة في تأملات يسيرة. هجرة الأنبياء يقول الدكتور محمد فؤاد شاكر رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة عين شمس إن المتأمل لقضية الهجرة يري أن معظم الأنبياء هاجروا من أرض بعثتهم إلي أرض نصرتهم.. فإبراهيم عليه السلام هاجر من العراق إلي الشام ثم إلي مصر.. وأيضاً موسي عليه السلام هاجر إلي أرض مدين هرباً من فرعون وقومه ويوسف عليه السلام هاجر إلي مصر.. وعيسي عليه السلام هاجرت به أمه من فلسطين إلي مصر وذلك لأن موقع البعثة لم يكن هو مركز النصرة.. فلو أن الرسول انتصر في مكة وأيده قومه ربما يقول الناس إن قريشاً نصبت واحداً منها زعيماً وقائداً لتظل لها الزعامة والقيادة في الجزيرة العربية لكنه لما بعث كذبوه وناصبوه العداء وكان أكثر المكذبين له ولدعوته أقرب الناس إليه من أهله وعشيرته.. فلما أراد الله سبحانه وتعالي نصرة دين حبيبه المصطفي فتح له القلوب خارج بلده وأمره أن يهاجر إلي المدينة التي قال عنها النبي صلي الله عليه وسلم "إنها أرض المحيا والممات". أضاف أنه رغم ما تعرض له الرسول صلي الله عليه وسلم من أذي ومن معاندة المشركين كان ينتظر أمر الله بالهجرة فأمر أصحابه بالهجرة إلي الحبشة مرتين ثم أمرهم أيضاً بالهجرة إلي المدينة وانتظر هو الوحي الذي يأمره بترك مكة إلي المدينة. وعلي هذا فالإنسان مطالب إذا لم يجد في بلده سبيلاً لتحقيق غايته من تحصيل العلم أو زيادة الرزق أو طاعة الله أن يهاجر إلي بلد آخر يحقق فيه مراده امتثالاً لقول الله تعالي "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" فلم يتغير موقف رسول الله ولا غايته وهدفه ولكن الذي تغير هو موقع الدعوة من أرض البعثة إلي أرض النصرة.