المشغول بتاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية سوف يجد في الفيلم الأمريكي "ج. ادجار" المعروض حاليا في القاهرة جانبا مهما من ذلك التاريخ. وأعني الجانب "الأمني" ودور مكتب المباحث الفيدرالية في تلوين المراحل السياسية المختلفة. ومن يهتم بانجازات نجم أمريكي كبير مثل المخرج والممثل كلنت ايستوود سيجد في فيلمه هذا الأخير علامة أخري علي طريق فنان مبدع يدقق في اختيار موضوعات افلامه التي يقوم بإخراجها. وافلامه ترسم وجهاً من وجوه الحياة في أمريكا من منظوره كفنان اختار أن يكون له دور في الحياة ليست فقط الفنية وإنما ايضا الاجتماعية والسياسية. الفيلم بطولة ليناردو دي كابريو وهذا بدوره ممثل رسم خطواته الفنية بطموح وارادة فنية دفعت به من شاب مراهق وسيم صديق للكاميرا إلي فنان مبدع ناضج أصبح لديه "ألبوم" من الشخصيات متنوع ومدهش. وفي هذا الفيلم يستحضر المخرج الحياة المهنية والشخصية لواحدة من الشخصيات البارزة والمؤثرة علي مدي 48 سنة من تاريخه ال إف بي أي FBI "مكتب التحقيقات الفيدرالي" انه ادجار هوفر "1895 - 1972" الذي أسس وترأس هذا الجهاز من 1924 وحتي وفاته .1972 انشغل هوفر في هذه الفترة التي تقترب من النصف قرن بتصفية التيارات اليسارية ومحاصرة اصحاب النزعات الشيوعية والنشطاء في مجال الحقوق المدنية. وعمل دوسيهات باسماء جميع العاملين في هذه المجالات وارشيفهم حسب حجم خطورتهم. بالاضافة إلي ملفات لجميع رؤساء أمريكا الذين حكموا الولاياتالمتحدة اثناء خدمته وعددهم ثمانية رؤساء بالإضافة إلي ملفات لأصحاب المراكز الكبيرة واصحاب النفوذ ومن ليس لهم نفوذ أيضا ولكن لديهم أفكار "هدامة" فهو لا يقتفي أثر "الجريمة" فقط وانما "الافكار" أيضا. والفيلم الذي كتب له السيناريو "داستن لانس بلوك" يلقي الضوء علي الحياة الخاصة علي هذه الشخصية النافذة والمثيرة للجدل فقد كان الرجل هو الوجه الأمريكي "للقانون موضعه موضع التنفيذ" وكان مثيراً للخوف بقدر ما هو مثير للإجلال إنه "شرير ومقدس" في آن واحد. يعرف الأسرار الخفية وراء الأبواب المغلقة بينما هو نفسه يمتلك سراً كافيا لتدمير صورته وحياته العملية وحياته عموماً لم يصل إليه أحد ومات وهو مازال في الوظيفة ولم يهتز نفوذه قيد انملة طوال سنوات إدارته لهذه المؤسسة الأمنية ال إف بي أي. قدم المخرج ايستوود من خلال فيلمه هذا دراسة وافية عن الشخصية جسدها دي كابريو. ولكن من يقرأ عن الرجل ودوره يري أن الفيلم لم يتدخل إلي الجانب القاسي والمعتم المتخفي وراء دعاويه الأخلاقية بأنه مسئول يقتفي أثر أعداء أمريكا لحمايتها منهم وربما لهذا السبب انحاز كاتب السيناريو إلي الجنب الاقل شراً وإلي الانجازات التي غيرت بعض القوانين التي تقوي امكانيات التصدي للجريمة وتحقيقات المباحث. يبدأ الفيلم في الستينيات من القرن الماضي بينما يقوم ادجار الذي تجاوز الستين في العمر بإملاء مذكراته علي سكرتير شاب بلغة رصينة وتعبيرات بليغة. وحكمة مهمة وجهت حياته كلها ألا وهي "إن المعلومات سلاح" وهي بالقطع "السلاح" النافذ في جميع العمليات المرتبطة بالأمن والسياسة ولذا أسس أكبر "أرشيف" معلوماتي علي مستوي العالم. حتي أصبح يخشاه الجميع بمن فيهم شخصيات نافذة وحاكمة. والفيلم يكشف كيف استطاع ان يصل "هوفر" إلي أسرار "روز" زوجة الرئيس الأمريكي "روزفلت" وعلاقتها بسيدة مثلية وكيف توجه الإدارة بتحقيق فذ حول اختطاف ابن أحد الاسماء البارزة ثم حول عملية "الاختطاف" إلي جريمة فيدرالية بحكم القانون. ويفوز الفيلم كيف كانت تتم عمليات مطاردة الناشطين اجتماعياً وسياسياً ومنهم اسماء معروفة ويقوم بترحيلها من البلاد وكان يمقت الزنوج والكلام عن حرية العقيدة والحريات المدنية ويطارد من يطالب بها وقد خطط لتدمير مارتن كينج بسبب آرائه الهدامة حول الحقوق المدنية وتشاحن مع المدعي العام الأمريكي وقتئذ "روبرت كيندي" ومع جون كيندي. باختصار كان من أكثر الشخصيات قتامة وشرا ولكن السيناريو الذي اعتمد عليه كانت ايستوود غفر له شروره وأخضع الشخصية لإعادة تأهيل علي الشاشة وقدم في نهاية المطاف شخصية متوازنة تثير الاعجاب. ومن يشاهد الفيلم ويتابع التطبيق العملي لفكرة إن "المعلومات قوة" التي بفضل الإيمان بها أسس رجل المباحث الفيدرالية الأول شبكات من المخبرين وجمع الآلاف من التسجيلات الصوتية حتي صار يمتلك هو وجهازه أسرار الأثرياء والمشاهير وأصحاب النفوذ والفنانين والصحفيين وبذلك يظل مالكا لهذه "المعرفة". ومن يشاهد هذا الفيلم يؤمن بأن هوفر أسس مدرسة عالمية استقي منها جميع المسئولين عن وزارات ومؤسسات الأمن الداخلي والخارجي في الدول المختلفة المبادئ الحاكمة النافذة والقادرة علي امتلاك ناصية الأمور والسيطرة علي الناس وأعمال القانون بوجوهه المختلفة وتحت دعاوي قد تكون مصطنعة. وقدم دي كباريو أداء محسوبا جدا وبليغاً فالفيلم يتأرجح بين ماضي الشخصية وحاضرها. من مرحلة الشباب إلي الشيخوخة.. ومن ثم فترات ذات أبعاد نفسية متباينة.. وبمهارات تكتسب مع الوقت أبعادا مغايرة وهو في الحالات المختلفة يخضع - بالضرورة - لفريق من فناني المكياج يرسمون علامات الزمن علي ملامحه ويعيدون تصميم شعره وألوانه وعليه أن يتناغم مع مراحل وروح التطور في الشخصية ومع التغييرات الشكلية التي تطرأ عليها. وعلي جانب آخر يصور الفيلم العلاقات المهمة في حياته وانعكاسها علي سلوكه. وعلاقته بأمه "جوري دنش" الشخصية الصارمة التي لا تختلف عن شخصية رجل أمن يوجه ويلاحظ وينتقد. وقد حذرته من ميوله المثلية ومن دلالة هذا السلوك. بعد ان التقطت عدم رغبته في الزواج ثم لاحقا علاقته بمساعده "كولسون" وكان لكلامها تأثيره علي شخصيته خصوصا بعد وفاتها. وصور الفيلم هذه العلاقات وبالذات علاقة "هوفر" بسكرتيرته "هاندي" وقدرته علي التقاط الصفات التي يريدها من الشخصيات التي تعمل معه. وفق استوود في اختياره لشخصية الممثل ارني هامر الذي قدم تجسيدا بالغ الإقناع لشخصية كلايد تولسون عشيق هوفر وساعده الابن وكذلك استطاعت ناعومي واتش في دور السكرتيرة "هلين جاندي" الذي منحها هوفر ثقته المطلقة ومنحته الطاعة والولاء حتي نهاية عمره. ولعب المكياج دورا كبيرا في الإيحاء بأعمار الشخصيات في فيلم تطول أحداثه لتغطي حقبا مختلفة في حياة كل شخصية. ومن مهارات استوود الملحوظة في أفلامه قدرته علي الحكي القصصي ومع صعوبة سيناريو يتحرك ذهابا وإيابا في الزمن ومن دون ترتيب لم يشعر المتلقي بالتشتت ولن تهرب منه التفاصيل أثناء القفز في الزمن وفي الأحداث. ومن أكثر المشاهد صعوبة وإثارة في هذه الدراما المشهد الفاضح للعلاقة الغرامية بين هوفر وتولسون والكاشف عن جوهر كل شخصية وعن الجانب المعتم في تكوينها انسانيا وعصبيا ونفسيا. يتضمن الفيلم أيضا مشاهد قوية جمعت بين نفس الشخصيتين أثناء سباق الخيول وقبل ذلك بين إدجار هوفر وسكرتيرته أثناء تجنيده لها وإغرائها للعمل معه.. ولهدف مزودج. أن يشتري ولاءها ويستفيد من قدرتها التنظيمية لخدمة أغراضه وقد ظلت بالفعل دون زواج تخدم إلي جواره ومن دون أن يفقد ثقته فيها يوما. والفيلم يعتمد علي شخصية واقعية التفتت لأهمية التاريخ ولدورها فيه وحرصها الشديد علي الإبقاء علي أسرارها بعيدا عن متناول اليد وبالفعل لن يستدل بوثيقة واحدة عن الجانب الخفي من حياة "هوفر" بعد أن قام مساعده وحبيبه بتدمير كل الملفات السرية بعد وفاته مباشرة. وكذلك اعتمد علي أحداث حقيقية فصور لقاءات هوفر مع بوبي كيندي واستحضر العلاقة السلبية بينه وبين ريتشارد نيكسون وهنا أيضا لابد من الإشارة مرة ثانية إلي عنصر المكياج ودوره في إضفاء المصداقية علي العمل ككل والابقاء في نفس الوقت علي اهتمام المتلقي.