يقول شوبنهاور: "إن الناقد الجيد أندر من العنقاء التي تظهر كل خمسمائة سنة". كان شوبنهاور أحد ضحايا النقد. كما أن أعظم المفكرين وأوسعهم أفاقاً. أمثال جوتة وفولتير حين أصدروا حكمهم علي الانتاج الأدبي والفلسفي لمعاصريهم. أرتكبوا أخطاء شنيعة "تبدو لنا غير مفهومة بحال ولا نجد لها تفسيراً أو تعليلاً". ذلك أنهم من ناحية لم يقدروا أعظم آثار عصرهم أو انتقصوا من قدرها. ومن ناحية أخري رفعوا من قدر آثار رديئة أو كانوا مصدراً لهذه الآثار التي خيم عليها اليوم ما تستحقه من النسيان. ساهم النقاد في صناعة مجد نجيب محفوظ. راهنوا عليه. وفسروا رواياته. وأعطوها أبعاداً بعيدة. وقالوا: إن زهرة في ميرامار هي مصر. وحميدة في زقاق المدق هي مصر أيضاً ولكن في وقت آخر. وهم الذين حرموا كتاباً كثيرين من المجد والتقدير. فقد كانت روايات إحسان عبدالقدوس توزع أكثر مما توزع روايات نجيب محفوظ. وكان سعر روايات إحسان في السينما أكبر من سعر روايات محفوظ لأن الأفلام المأخوذة عنها تأتي بعائد أكبر للمنتجين. لكن النقاد هاجموا روايات إحسان وجعلوه في مرتبة أقل. وهكذا فعلوا مع أمين يوسف غراب ويوسف السباعي والسحار وغيرهم. مما أثر بعد ذلك علي مكانتهم ككتاب. وجعلوا محمد عبدالحليم عبدالله يصاب بحالة اكتئاب. حتي أن يوسف السباعي كان يقول عنهم دائماً: لقد كانوا سبباً في موت محمد عبدالحليم عبدالله. كان نبيل عصمت الصحفي في الأخبار صديقاً لصناع السينما والغناء. وكان ينشر في أعلي صفحته بالجريدة كلمات قليلة عن فيلم أو أغنية. يبدي رأيه إما بالايجاب أو بالسلب. وقد قال أحد الأصدقاء لممثل مشهور من أصل سكندري: لماذا تعطون لهذا الصحفي كل هذا الاهتمام؟ فقال له: كلماته القليلة في أعلي صفحته قد ترفع فيلماً أو تخسف به الأرض. هذا ما يفعله نقاد الأدب في مصر بالكتاب. فقد يكتب ناقد كلمات قليلة عن رواية. فيجعل الكثيرين يبحثون عنها ليشتروها. أو أن يقول رأيه بالسلب. فيبتعد القراء عنها. أو أن يأتي ناقد الي قصور الثقافة ويبدي رأيه في كاتب. يثني عليه مثلاً. فإذ بالجميع يعاملونه علي هذا الأساس خاصة موظفي الثقافة أو يهاجمه وينتقصه. فإذ بالجميع ينحو نحوه. ويتعامل مع هذا الكاتب علي أنه كاتب ضعيف. وأذكر أن أحد النقاد قد جاء الي قصر الشاطبي لمناقشة مجموعة من المبتدئين. وكان بعضهم مازال متأرجحاً بين الخواطر التي بدأ الكتابة بها. وفن القصة القصيرة. لكن سيادة الناقد قال إن في أعمالهم "تجريد". وإذ بواحد منهم يعجبه هذا الرأي ويعيش عليه. فهو مجدد لأن الناقد "فلان الفلاني" قال عنه منذ أكثر من عشرين عاماً. إن في قصصه "تجريد". هذا ما حدث للكاتب الإنجليزي الكبير تشارلز ديكنز. فقد كان الشعب الإنجليزي كله مولع بكتاباته. تقرأ الملكة فيكتوريا كتبه بإعجاب شديد. وباقي الشعب يحرص علي شراء كتبه وقراءتها. لكن ناقدا مؤثرا كان معاصرا له هو "هنري جورج لويس" كان له رأي آخر. فديكنز بالنسبة إليه كاتب تقليدي. محدود القيمة. كاتب مليودرامي. يصنع مشاهد كاريكاتورية ليؤثر بها علي القراء. وقراؤه من النوع الذي يبحث عن التسلية. حيث تنقصه النظرة الجادة والعمق الفلسفي والاتقان الفني. فهو لم يقرأ في الفلسفة. بعكس الروائية "ماري آن إيفانس" المشهورة باسم "جورج إليوت" العميقة والتي تفلسف الأمور. أثر رأي الناقد "هنري جورج لويس" علي الكُتاب. خاصة المبتدئين فانصرفوا عن ديكنز واعتبروه كما مهملاً. وقلدوا الكاتبة الطليعية جورج أليوت. وظل هذا المفهوم عن ديكنز سائداً حتي نهاية الثلث الأول من القرن العشرين. وكان لهذا أثره علي الاستهانة به من كبار الروائيين في تلك الفترة أمثال فرجينا وولف وإدوار مورجان فرستر. لكن كاتبين قاماً بدور مهم في إبراز حقيقة تشارلز ديكنز. هما "أدموند ويلسون" الناقد الأمريكي المشهور و"جورج أورويل" الروائي الإنجليزي المعروف فقد بينا المعاني المستترة والرموز واللبس وازدواج الدلالة واللعب بالألفاظ والتكرار ذي المغزي وتيار الوعي ومخابيء العقل الكامن والمجانسة بين المتناقضات. وأعادا تقديم فنه الروائي. وأكدا جديته وأظهرا الجانب المأساوي في رواياته. وكشفا عن حسه الاجتماعي والنفسي الصادق. واتضح أن هجوم "هنري جورج لويس" المعاصر لديكنز كان ليعلي شأن عشيقته الروائية جورج أليوت. إنني أنسي دائماً اسم الناقد هنري جورج لويس. لكن أقل مهتم بالأدب لا يستطيع أن ينسي تشارلز ديكنز. فالمطابع لم تتوقف عن طباعه أعماله. والسينما تسابقت لتحويل قصصه ورواياته الي أفلام. وأعتقد أنه لولا هجوم "هنري جورج لويس" علي ديكنز ما تذكره قراء الأدب. فقد ساهم في شهرته لأنه نال الهجوم منه. لقد اهتم ديكنز بالوصف الدقيق للشخصيات. والوصف المفصل لمختلف الطبقات الاجتماعية والعاطفة. وخصوصاً الحزن والأسي في العديد من كتاباته. هذا ما يحدث في أيامناً هذه. التهليل والتصفيق لكاتب لأنه من شلتهم. أو صديقهم. والتعتيم علي كاتب مجيد. لمصلحة كاتب آخر يهمهم. وقد حكي لي أحد الشعراء الأصدقاء. بأن ناقداً دأب علي مهاجمة شعره. والنيل منه في كل قصيدة يقرأها له. ثم جاء شاعر آخر. وقدم لهذا الناقد قصيدة. أعجبته. فقام واحتضنه وقبله. وأخذ يتحدث عنها طويلاً. وهو ينظر لصاحبنا الذي يراه شاعراً قليل القيمة . ويقول له: تعلم من هذه القصيدة ففيها الذي ينقصك في الشعر. وبعد لحظات. قال الذي قدم القصيدة للناقد: إنها من تأليف زميلنا فلان. واضطر الناقد أن يقول في قلة حماس: حقيقة قصيدتك؟!. لقد تطورت كثيراً. ولو كانت قدمت إليه في الأول علي أنها من تأليفه. لهاجمها. كما يفعل في كل م.رة. وكان لنا زميل في الشركة التي كنت أعمل بها. كان مقرباً من المدير العام. فتعامل الجميع مع عمله الحسابي علي أنه عمل عظيم وعميق ورهيب. وعندما نقلوه لعمل آخر. وتولي غيره العمل السابق. فقد العمل أهميته وقيمته. ما أريد أن أوضحه. أن بعض النقاد يتعاملون مع الأشخاص. لا مع أعمالهم الأدبية.