مثل الشخصيات الروائية التي تلامس حياتها حد الأسطورة عاش الروائي السكندري الكبير أحمد محمد حميدة. عبر عن المهمشين وسكان العشوائيات واللائذين بالمقامات والأضرحة. طالبي النصفة وعانت شخصياته قسوة العيش وهم الوجبة التالية. تناول ذلك كله في أعمال تكفي أسماؤها للتدليل علي القضايا التي تثيرها: الغجر شوارع تنام من العاشرة. عبق الشوارع. القيظ والعنفوان. مدن وضواحي. متاهة الغربان. سوق الرجال. حراس الليل. أشلاء بؤرة العشاق. تراتيل نسج الطواقي. وغيرها. حين كنت ألتقي أحمد حميدة وأنصت إلي كلماته العفوية. التي ترفض الحدود والقيود وتعبيراته المحملة برؤي وخبرات وملاحظاته الواعية. الناعية لهموم الجماعة. وان حرصت - في الوقت نفسه - علي مشاعر الآخرين.. أتذكر زوربا اليوناني شخصية كازنتزاكس الرائعة. بالمناسبة: كلاهما ينتميان إلي بيئة ساحلية تطل علي المتوسط. أراه في كل مرات عودتي - لا أقول زيارتي - إلي مدينتي الجميلة. ربما كان اللقاء في قصر التذوق. أو في قصر الأنفوشي. أو مركز الابداع أو غيرها من المواقع الثقافية التي لا يناسب تواضعها وقلة عددها - للأسف - مكانة المدينة التي كانت عاصمة للعالم القديم. قد أتنبه إلي مناداته باسمي في بحري أو شارع الميدان أو ميدان المنشية. أو شاطيء البحر. أو القهوة التجارية التي تحتضن جماعات المثقفين وأحيانا أتبين خطه وأنا أفض رسالة تحمل نماذج ابداعه. كان أحمد حميدة فيضاً إنسانيا يمثل امتداداً رائعاً لابن البلد السكندري يعرف معني الصداقة ويتصرف بدافع الشهامة والجدعنة دون ان يشغله المقابل. فضلا عن موهبة روائية قرأت المكان السكندري جيداً وتعرفت إلي قسماته وملامحه وقطرات فنها في أعمال أجادت التعبير عن الحياة في الإسكندرية الشعبية مثلما عبرت أعمال نجيب محفوظ عن قاهرة الفاطميين. حين عانيت ظلماً وظيفيا طالت تأثيراته حرص أحمد حميدة ان يتصل بي كل صباح لا يتكلم فيما أعانيه إنما هي كلمات الإبداع وآخر القراءات ومباريات الكرة. وأحوال الجو.. ما لاصلة له بعملي الوظيفي. تفصل كلماته بين ما جري والنظرة إلي المستقبل. أنفض المشاعر الحزن. وأعود إلي الأوراق التي أهملتها وفي خاطري شعور بالدين لهذا السكندري الذي وهبنا مثلا في العصامية وصنع الذات. لاأتصور عودتي إلي الإسكندرية فلا ألتقي حميدة في ندواتها ولا ثرثرات مقاهيها ولا شوارعها المغسولة بمياه الأمطار ولا الكورنيش الحجري المطل علي أمواج البحر المتوهجة بألق الشمس ولا غيرها من الأماكن والشخصيات والوقائع التي مثلت تكوينات في مشروعه الابداعي. أيها المبدع المتميز الطيب.. سأفتقدك!