ربما كانت ذنوبه أكثر وأثقل فأراد الله عز وجل أن يسمعه في حياته ما لم يسمعه عبدالناصر والسادات في حياتهما.. ومالم يسمعه هو نفسه علي مدي ثلاثين عاماً قضاها علي كرسي السلطة الوثير واعتاد خلالها علي النفاق المعسول الذي يلصق به كل مكرمة ويبرئه من كل نقيصة.. بل أسمعه ما لم يكن يتصور أن يسمعه علي الإطلاق مهما أظلمت الدنيا من حوله. كلام كالرصاص أطلقه ممثل النيابة في محاكمة مبارك ونجليه والعادلي ومساعديه.. لكنه الحقيقة.. كلمة الشعب التي كان يجب أن يسمعها مبارك وأعوانه قبل أن يغادروا هذه الدنيا حتي يعرفوا حجم الكوارث التي خلفوها من ورائهم.. وكان يجب أن يسمعها كل راغب في منصب رئيس الجمهورية وأيضا كل مواطن في أي موقع من مواقع المسئولية لعل الناس تعتبر. قال المستشار مصطفي سليمان المحامي العام لنيابات استئناف القاهرة في مرافعته "إن مبارك كان حاكماً مستبداً عاث في الأرض فساداً.. وفتح الباب أمام أصدقائه المقربين للإفساد دون حسيب أو رقيب.. ارتكب أخطاء كثيرة لم يرتكبها رئيس قبله وخذل المصريين من أجل مصالحه الشخصية ورضخ لإرادة قرينته وأسرته ليوافق علي توريث الحكم.. وأهان الشعب حين قام نظامه بتزوير الانتخابات واستحق بذلك أن ينتهي مشواره بالإنكسار والذلة لأنه كرس الدولة للتوريث وأبقي علي وزراء فاشلين مما أدي إلي تفشي الفساد وارتفاع الأسعار وزيادة الفقراء فقراً والأثرياء ثراء". وأضاف ممثل النيابة أن مبارك لم يتعظ من قتل السادات أمام عينيه ولم يدرك أن مصر ليست قطيعاً أو عزبة أو تكية.. وأن الشعب المصري له حقوق عليه.. لم يسمع صوت الشارع الذي يطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية.. رزق بملك لم يحسن سياسته مما أدي إلي انحدار البلاد وانحسار دورها الإقليمي وفقدها مكانتها التي تتمتع بها. نعم.. هو كلام كالرصاص لكنه في الواقع كان رسالة مهمة لمحامي الدفاع عن الرئيس السابق "المتهم" وأيضاً لمحامي الإدعاء وأسر الشهداء والمصابين بأن المحاكمة لن تنحصر في قضية جنائية كقضايا القتل العادية.. وأن الإدعاء لن يبحث عن الضابط أو الجندي الذي أمسك بالبندقية وقتل الشهداء وإنما سيحاكم النظام الذي سمح بنشر ثقافة قتل المتظاهرين السلميين وسمح للضباط والجنود بأن يواجهوا المظاهرات السلمية بالبنادق الآلية وسيارات الدهس والجمال والحمير. سوف يسعي الدفاع إلي حصر القضية في البحث عن الشخص المعين الذي قتل متظاهراً معيناً والبحث عن الشهود الذين رأوا بأعينهم القاتل والقتيل والرصاص لكن سيكون هذا سعياً مرفوضاً غير مشكور.. لأن القضية قائمة علي اتهام نظام بأكمله استخدم منهجاً متخلفاً طوال ثلاثين عاماً في مواجهة أية مظاهرات سلمية بالعنف والقمح والقتل والسحل.. وظهر هذا المنهج جلياً ومركزاً في مواجهته لثورة 25 يناير التي نجحت أخيراً في الإطاحة به وتحرير الوطن والشعب من ربقته. بالتأكيد نحن نريدها محاكمة قضائية عادلة ولا نريدها محاكمة سياسية لكنها في ذات الوقت لا يمكن أن تكون محاكمة عادية مثل قضية قتل عمد بين شخص وآخر.. لأنها في الحقيقة جريمة نظام اعتاد علي أساليب منهجية معروفة في القتل ولابد أن يحاسب عليها ابتداء من رأس النظام الذي حرض وأعطي التعليمات.. أو في أقل تقدير صمت علي الجريمة والصمت علامة الرضا.. مع أنه ولي الأمر المسئول عن حماية أرواح المتظاهرين السلميين. ولأنه كان من الصعب علي مبارك أن يسمع هذه المرافعة التاريخية للنيابة التي تضمنت كلاماً كالرصاص فقد تأخر في الوصول في اليوم التالي إلي قاعة المحاكمة وقيل في تفسير ذلك إنه لم ينم ليلته. وسوف تزداد الأمور سوءاً بالنسبة له وباقي المتهمين يوماً بعد يوم خصوصاً بعدما طالبت النيابة بإعدامهم شنقاً.. وبعد أن أكدت شهادة قائد قطاع الأمن المركزي أنه تم تزويد القوات التابعة له بأسلحة لقتل المتظاهرين. وأكدت النيابة أن قائد جهاز أمن الدولة أساء استخدام سلطته بقتل المتظاهرين وتحويل مصر إلي سجن كبير.. وأن مبارك خدع الشعب وخان الثقة والأمانة التي في رقبته. والغريب في الأمر أن تقر النيابة بأن وزارة الداخلية وجهاز الأمن القومي لم يقوما بواجبهما في تقديم أدلة إدانة مبارك وتركا هذه المهمة للنيابة لتقوم بها بنفسها ومع ذلك لم يحاسب أحد عن ذلك حتي الآن. إن الرصاص الذي سمعه مبارك وأعوانه بآذانهم من كلام النيابة في قاعة المحكمة ربما يكون صدي للرصاص الذي أطلقوه علي الشباب المسالم في مظاهرات الثورة.. وربك يمهل ولا يهمل.