ونحن نحتفل بذكري انتصار جيشنا العظيم في حرب أكتوبر المجيدة التي أذهلت العالم.. تتمثل أمامنا صور أبطالنا من الجنود البواسل الذين ضحوا بكل غال من أجل استرداد كل شبر من تراب مصرنا الحبيبة.. وتتزاحم أمامنا صور وحكايات وذكريات كثيرة قد لا تتسع لها مئات المجلدات. "المساء الأسبوعية" تقدم نموذجاً لأحد هؤلاء الأبطال وهو د.سامي الروبي الرجل الذي غلب حبه لمصر علي عشقه للموسيقي.. فأجل مشروع نجاحه كموسيقار بدأ يلمع نجمه في سماء الفن ليدافع عن الوطن.. هجر معشوقته "الكمان" وحمل السلاح مع أقرانه من الشباب بعد هزيمة يونيو 67 وكلهم عزيمة وثقة في استرداد كل شبر من أرض سيناء يمتزج بالوطنية وحب مصر وذكرياته عن زمن الفن الجميل. نشأ الروبي في بيئة فنية ومن أسرة موسيقية.. فوالده هو الفنان حسن الروبي الشهير ب"حسن سامي" أشهر عازف كمان في فرقة سيدة الغناء العربي أم كلثوم وظل يلازمها طوال حياته. موهبة مبكرة لعبت الجينات الوراثية دوراً كبيراً في تكوين موهبة الروبي الطفل.. فبدأ يتعلق بالموسيقي وهو في سن السابعة من عمره.. فلا يتعامل إلا مع المشاهير من نجوم الفنانين.. اكتشف موهبته الفنان محمد فوزي وأنقذه من "قسوة والده" كما يقول كان يضربه كلما أخطأ في العزف أو "المقامات".. وفي العام 1959 التحق بالمعهد الإعدادي للموسيقي وكان في دفعته د.حسن شرارة ورمزي يسي ود.سعيد القصبحي ود.مصطفي ناجي وجمال سلامة. * يقول سامي الروبي: تبناني الموسيقار محمد فوزي فنياً ثم قدمني كعازف كمان في أوركسترا الأطفال وقت افتتاح التليفزيون عام ..1960 ثم اختارني المخرج الفنان عاطف سالم في نفس العام لفيلمه "أم العروسة" للقيام بدور الشقيق الأصغر ل"أحلام" عازف الكمان. * يواصل الروبي حديث الذكريات: التحقت بالمعهد العالي للموسيقي سنة 1964 وكنت أول دفعتي في عزف "الكمان".. وكان معي د.رضا رجب والفنان محمود الجرشة عازف الكمان الأول في العالم العربي. أم كلثوم.. "حياتي" في إحدي حفلات الست أم كلثوم وقبل هزيمة 67 بأيام لم يتمكن والدي "حسن الروبي" من العزف وراءها لمرضه الشديد.. فأشارت الست إلي لأعزف مكانه.. فلم أصدق وكدت أطير فرحاً.. وتساءل الناس يومها: "مين الواد ده اللي بيعزف ورا الست"؟!!..السيدة أم كلثوم كانت تحتضنني وتعتبرني ابنها ولعبت دوراً هاماً في حياتي.. وكنت محظوظاً بحبها وعطفها.. وكل من حولي كانوا يحسدونني علي هذا الحب. بعد هزيمة يونيو 67 أصابتني حالة هيستيرية الروبي يتذكر وانخرطت في البكاء وتناسيت تماماً المزيكا والفن.. وسيطرت علي حالة من الاكتئاب.. وأحست بي "الست أم كلثوم" التي أشفقت علي وقالت لي: عايز إيه يا سامي؟!.. فارتميت في حضنها باكياً: عايز أدافع عن مصر.. عايز أروح الجبهة.. عايز أدخل الكلية الحربية.. عايز أستشهد!! اتصلت أم كلثوم فوراً بالزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذي أجاب طلبها بلا تردد.. وفعلاً اجتزت اختبارات الكلية الحربية ونجحت بامتياز. التحق سامي الروبي بالقوات المرابضةعلي خط القتال الأول في القنطرة غرب بعد تخرجه مباشرة.. وفي العام 1969 شارك في حرب الاستنزاف وأصيب بعدة إصابات علي جبهة القتال.. وبالمناسبة هو أحد أعضاء "جمعية المحاربين القدامي وضحايا الحرب الدولية". النطق بالشهادة * يحكي د.سامي الروبي: أثناء حرب الاستنزاف وفي حصار جزيرة البلاح بالإسماعيلية سقطت علي أفراد السرية التي كنت أقودها قنبلة زنة ألف رطل من طائرة "سكاي هوك" وكانت تحلق فوق رءوسنا مباشرة.. فما كان منا جميعاً إلا أن نطقنا بالشهادتين.. وكانت المعجزة الإلهية عدم انفجارها.. فاتجهت نحوها وجلست عليها لبعث الثقة في نفوس أفراد السرية.. وأراد الله عز وجل لنا السلامة. يواصل: لا أنسي ما حييت الجندي المجند "يوسف زراع" وكان خريج كلية الزراعة.. توسمت فيه أن يكون ضابط صف وحكمدار جماعة.. فطلبت من قائد الكتيبة ذلك وتمت ترقيته فعلاً لرتبة "عريف".. دخل يوسف الملجأ الخاص بي وأعطيته كلمة"سر الليل" وبمجرد خروجه سقطت عليه دانة مدفعية 130 مللي واستشهد علي الفور.. فقفزت علي جثمانه بمياه القناة فلم أجد منه جزءاً واحداً.. وكان أول شهداء وحدتي. * يقول: كنت علي خط التماس مع العدو.. رأيت بدايات تشييد خط بارليف مع بداية عام 1970 وكلما ارتفع البناء قلبي كان يعتصر ألماً لما أراه من تحصينات هائلة.. ومدي التأثير النفسي والمعنوي علي قواتنا المرابضة علي خط القناة. ترقية استثنائية حصلت علي فرقة صاعقة ضمن الدفعة الأولي في القناصة وكنت ثالث هذه الدفعة.. وتعاملت مع كثير من الضفادع البشرية للعدو علي خط المواجهة. الفريق أول محمد أحمد صادق وزير الحربية وقتها أمر بترقيتي إلي رتبة نقيب وقد كانت ترقية استثنائية وفي غير موعدها. قبل حرب 73 مباشرة أنشأت مع بعض القادة "مدرسة المعركة" في بورسعيد وحصلت علي فرقة صواريخ مضادة للدبابات بالإضافة إلي فرقة قادة كتائب وحصلت علي الدراسات العليا في عدد كثير من الأسلحة. إفطار من العدو!! * د.سامي يتذكر: أثناء حرب أكتوبر كنت قائد عنصر صواريخ.. وطبعاً كنا صائمين.. انقطعت عنا الإمدادات وكنا نفطر علي الأعشاب التي تنبت في الأرض.. فوجئنا بإحدي طائرات العدو تقوم بإنزال "براشوت" ملئ بكافة أنواع الأغذية "المطايب" علي موقعنا "بالخطأ" فهلل الجميع "الله أكبر".. وكان إفطار الجنود رابع أيام المعركة هدية من العدو!! * وأنا علي جبهة القتال وأثناء المعركة كان يبكيني أغنيتان.. الأولي أغنية عليا التونسية "ماتقولش إيه إدتنا مصر" ألحان حلمي بكر والثانية "بلدي أحببتك يا بلدي" للفنان الموسيقار محمد فوزي الذي تبناني فنياً. كَّرمه الرئيس الراحل أنور السادات بعد انتصار أكتوبر في عام 1975 وعهد إليه منصب رئيس أركان حرب ومدير إدارة الموسيقات العسكرية مكافأة لشجاعته ولتقديم خبرته الفنية والموسيقية للقوات المسلحة. عودة إلي الفن بعد نصر أكتوبر ضمه الفنان أحمد فؤاد حسن لفرقته الماسية.. فكانت بداية التاريخ الفني للدكتور سامي الروبي فوقف يعزف خلف الموسيقار محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش وليلي مراد وشادية وصباح ووردة الجزائرية ووديع الصافي وسيد مكاوي وسعاد محمد وغيرهم من مشاهير الغناء والطرب في مصر والعالم العربي. في أوائل الثمانينيات عمل الروبي مع فرقة رضا للفنون الشعبية.. ثم ساهم في التسعينيات في تأسيس الفرقة القومية للموسيقي العربية بقيادة المايسترو سليم سحاب في دار الأوبرا المصرية.. ثم تركها ليطوف حول العالم ليقدم فنه لدول الغرب. الأسطوانة البلاتينية في العام 1981 حصل د.سامي الروبي علي الأسطوانة البلاتينية من المنظمة العالمية للموسيقي في حضور رئيسها "جون ريد" لتكريم الموسيقار محمد عبدالوهاب.. واشترك الروبي كعازف كمان في أوركسترا محمد عبدالوهاب علي مسرح سيد درويش بأكاديمية الفنون.. كما حصل علي عدة شهادات تقدير في الإبداع الفني من وزارة الثقافة وكثير من الميداليات الذهبية اعترافاً بفنه وموسيقاه المتميزة. سألت الموسيقار سامي الروبي: ياعم سامي أنت بتقول إن "الكمان" هي أنثي الأوركسترا.. إذا هجرتها يوماً خاصمتك "شهرا".. وإذا تركتها شهراً هجرتك إلي الأبد!!.. إذن فلابد أنها هربت منك وبلا عودة!!.. لأنك أثناء وجودك علي جبهة القتال هجرتها سنين وسنين!! * أجاب: لم أهجر معشوقتي ساعة واحدة.. وسأقول لك سراً.. قمت بتهريب "الكمان" ضمن متعلقاتي الشخصية وداخل "شوال".. وعلي جبهة القتال حشرتها في رمل الوسادة التي تحت رأسي.. وكل ليلة وحينما يأتي المساء كنت أداعب أوتارها وأتعلم والجنود نيام وذلك بعد كتم صوت أوتارها ب"ثقاب الكبريت".. فلا يسمعها إلا قلبي المولع بها.. وإذا انكشف هذا الأمر وقتها كنت سأحاكم عسكرياً.. لكن ربنا ستر!! أمنية أمنية تريد تحقيقها.. أتمني إعادة تكوين فرقة أوركسترا الإذاعة والتليفزيون التي اختفت بوفاة الموسيقار أحمد فؤاد حسن.. فهل تتحقق هذه الأمنية خاصة بعد ثورة 25 يناير حتي يعود للإذاعة والتليفزيون دورهما في المحافظة علي تراثنا الموسيقي ونعود إلي زمن الفن الجميل؟!