قدم اوركسترا القاهرة السيمفوني حفلين متتابعين لهما أهمية خاصة حيث أعلنت دار الأوبرا أن القيادة في هذه الحفلات تأتي في إطار اختيار قائد اساسي للفريق ورغم تحفظنا علي هذا التصرف العجيب الذي يبتعد تماماً عن معايير اختيار القادة الاساسيين إلا أننا لا ننكر ان هذا التنوع في القادة أنعش الحياة الموسيقية وجذب جماهير لهذه الحفلات بالاضافة أنه فرض مقارنة محمودة عادت بالفائدة علي عشاق الموسيقي. الحفلات كالعادة أقيمت في المسرح الكبير الأول قادة المايسترو السويسري "مارك كيسوتشي" والذي قدم برنامجاً تغلب عليه المؤلفات القومية وربما يرجع ذلك أن أصوله المجرية وقد جاء برنامجاً حسن الاختيار فنجده وفق تقاليد حفلات الكونسيرالافتتاح بعمل قصير ثم كونشرتو ويختتم بالسيمفونية فكانت البداية مع مقطوعة رقصات من جالانتا" للمؤلف المجري سلطان كوداي "1882- 1967" وهي من رصيد السيمفوني ولكن لا تعزف كثيراً وتعد من الاعمال المشرقة والمحببة لدي الجماهير لما فيها من تنوع في السرعات وإيقاعات راقصة جميلة وقد استمد كوداي ألحانها من موسيقي الغجر التي كان يستمع إليها في قرية "جالانتا" التي قضي فيها طفولته والعمل رغم استلهامه الموسيقي الشعبية إلا أنه يتميز بتلوينه الاوركسترالي البديع وقد استطاع القائد والفريق أن يؤديا هذا العمل الجميل بشكل طيب وتفوقت فيه مجموعة النفخ التي لها دور بارز فيه. المؤلف المجري "كوداي" من الشخصيات الهامة في عالم الموسيقي القومية لعب دوراً بارزاً في جمع الفولكلور الشعبي ونشر الثقافة الموسيقية وله طريقة عالمية تعرف باسمه لتعليم الأطفال الموسيقي وهو رفيق كفاح للمؤلف القومي بيلابارتوك والاثنان من مؤسسي علم "موسيقي الشعوب" في العالم ولهذا كنا نتمني أن يتم تقديم عمل من اعماله التي لم يسبق لها العزف في مصر. الفولكلور البولندي المقطوعة الثانية في البرنامج كانت كونشرتو الكمان والاوركسترا رقم 1 مصنف 35 للمؤلف البولندي كارل شيمانوفسكي "1882- 1937" والذي يعد أهم من انجبت بولندا ويمثل الجيل الانتقالي بين شوبان ومدارسها التجريبية المعاصرة وقد وفق في أن يبتدع لنفسه اسلوباً خاصاً أدمج فيه عناصر الفولكلور البولندي مع عناصر هارمونية من الانطباعية الفرنسية. العمل الذي استمعنا إليه قدمه لأول مرة في مصر عازف الكمان المعروف د. محمود عثمان وكان ذلك في يناير عام 2001 ومنذ هذا التاريخ لم يعزفه السيمفوني ولهذا يعد اختياره جيداً خاصة انه من الأعمال الصعبة المليئة بالتفاصيل والتي تتطلب كل عناصر الفريق من آلات نفخ وايقاع ووتريات ومصاجة للبيانو والهارب وقامت بالعزف المنفرد العازفة البولندية "مونيكا اوربا نياك ليزيك" ولأنها من بلد المؤلف توقعت ان يكون العمل من رصيدها الفني وتحفظه بتفاصيله وللأسف هذا لم يحدث فجاء أداؤها متوسطاً وأيضاً الفريق لم يكن علي المستوي المطلوب وكأننا تستمع إلي عمل لم يأخذ حقه في التدريبات والبروفات وتاهت الكثير من التفاصيل المميزة له مثل تكنيك عزف الكمان الذي ادخل عليه هذا المؤلف عناصر مبتكرة تمثل اضافات هامة بعد "باجنيني" تجتمع فيه الأصالة والحرفية ولهذا جاءت المقارنة هنا لصالح العازف المصري د. محمود عثمان ولحفل السيمفوني في 2001 والذي مازلنا نحتفظ به في ذاكرتنا وإذا كان الكونشرتو لم يرض عشاق الموسيقي فإن أداء السيفمونية الثامنة لانطونين دفورجال "1841- 1904" جاء علي مستوي جيد استمتعنا بتفاصيلها والتي اشتهرت بها مثل التنوع والتلوين الجميل في الحركة الثانية ولحن المارش الذي يسبق الختام باللحن الذي ويؤديه الفلوت الذي يعبر عن غناء العصافير.. العمل واضح إنه من رصيد هذا المايسترو وأيضاً من رصيد السيمفوني المصري فكان ختاماً طيباً لهذه الأمسية. القائد المصري الحفل الثاني والذي قاده المايسترو والمصري أحمد الصعيدي تميز بالجودة والدقة في الاداء بكل ما تحمل هذه الكلمة من معني ورغم انه لم يشارك فيه كل عناصر الفريق لطبيعة المؤلفات ولكنه واضحاً انه يفهم الأوركسترا الذي اسسه والذي ايضاً يقوده من حين لآخر وتقريبا علي علم بكل امكانيات عناصره البشرية ولهذا نجده اختار اعمالاً مشهورة تمثل في طياتها تكتيك مميز ومتطور في عصرهما ويمثلان نقله تمهيدية لعالم جديد من النغمات فكان الفاصل الأول مع السيمفونية 39 لموتسارت والتي وصل فيها إلي قمة الكلاسيكية والعمل الثاني كان السيمفونية الثالثة لبيتهوفن لقد شعر المتفرجون وكأنهم انتقلوا إلي فيينا مدينة الموسيقي حيث يقود المايسترو بدون مدونة موسيقية أمامه ويحفظ الأعمال عن ظهر قلب بتفاصيل لم استمع إليها إلا من الاوركسترات الكبري فهذا العمل والذي يطلق عليه "البطولية" Eroca يمثل بداية التطور والانتقال إلي نضج كلاسيكي وبداية صعود بيتهوفن إلي المجد وتطوره عن كلاسيكية هايدن وموتسارت. أوضح الصعيدي في قيادته كل عبقريات هذا العمل بداية من الثلاث نغمات الأولي والتفاعل المبتكر فيها إلي حركة المارش الجنائزي بإيقاعها البطئ إلتي تعد من أهم المراثي الموسيقية في التراث العالمي والحركة الثالثة التي خرج بها عن المألوف في الكلاسيكية بأن جعلها اسرع وبما فيها من تبادل بين آلات النفخ والوتريات وتختتم بالتيمباني حتي مجموعة التنويعات في الحركة الأخيرة. وبجانب التفسير الأمين من القائد نجده استطاع ان يتحكم في المجموعات الألية للفريق و يستخرج منهم أجمل المهارات التقنية في العزف لقد جعلنا نشعر بقيمة هذه السيمفونية التي كانت بداية طريق المجد لبيتهوفن والتي ختمها برائعته الكورالية .. وأخيرا هذا الحفل بدقة الأداء والتفسير الجيد للعمل مهمة تفاصيله يؤكد أن الصعيدي بتعليمه الأكاديمي الطويل في النمسا وسنوات خبرته واجتهاده وموهبته وصل إلي مرحلة عالية من النضج الفني تجعله من خير القادة المصريين الذي نتميز بهم وان يكون قائداً أساسيا للسيمفون مكسب كبير لعشاق الموسيقي في مصر وأيضاً للعازفين وللقادة الشباب الذين يؤهلهم لتولي زمام الأمور من بعده علي أسس علمية وتقنية وأكاديمية تليق بمصر.