لو امتلكت خاتم سليمان. وسألني "الجني": مثل من تريد أن تكتب؟ لقلت دون تردد: الأستاذ كمال عبدالرحمن. الشاعر والأديب البحراوي والمصري. الكبير جداً. القابع علي كرسي يضيق عليه كثيراً في وظيفة هي أبعد ما تكون عما يجب أن يكون عليه. المتفوق سرداً وإبداعاً علي آلاف ممن يدعون الإبداع حولنا ولا علاقة لهم به. الهائم رغم ذلك في عالمه وحول محبيه المحظوظين أنه بينهم. وأنا آخر من وصل إليه. وسمح لي بالاقتراب منه. بل سمح لي بأن أضحك معه. وجاملني في أكثر من موضع. ليرفع معنوياتي. منذ أيام. أهداني الأستاذ كمال عبدالرحمن. ديوانه الأخير الذي صدر عن معرض الكتاب بدمنهور. ضمن عشرة مؤلفات. في مبادرة لها دلالاتها. اتخذ قرارها وأشرف عليها. ودعمها. الدكتور محمد علي سلطان محافظ الإسكندرية الحالي. قبل أن يغادرنا. فنطمس الرسوم والكتابات عن الهرم الذي شيده. وننسبها لمن جاء بعده. الديوان. يحمل اسم "الأنثوردة". وهو مزج بين الأنثي والوردة. في مرادفة. نحتها كمال عبدالرحمن. كعادته. فهو وإن كان من هو. إلا أنه في الكتابة يتعالي دون أن يتعمد ذلك. ولنقل إنه تدلل علي اللغة. التي باتت ترتضي من ابنها الأثير كل شيء. كمال عبدالرحمن. يدرك قطعاً أنه قيمة. فلا يكتب إلا ما يوازيه. وثراء اللغة لديه مرهق جداً. لكنه من ذلك الإرهاق الذي يصاحبك في مدن الحكايات. والمؤرق أنه ليس بالإمكان أن تكتب عنه أو له "والسلام". فإن تجتاز عتبة رضاه.. تلك مسألة صعبة. تبدو لك وأنت تقرأ له. مستحيلة. لأنه لا شيء سيطاول ما يكتب. في قصيدة "الأنثوردة". يقول: راح غبار النور.. يدندن مزموراً توراتياً.. لحظة أن كان حفيف الشيفون علي مرمرها.. يتهجي لغة غامضة.. ثم يروح طويلاً في غيبوبة. وفي قصيدة لجوء. يكتب: انفجري بركاناً.. لا الليل يقاسمني مأساتي.. لا الفجر يحط علي شرفاتي.. انفجري في ذاتي.. علي أن أحيا.. مثل الأحياء الموتي.. صفراً. وفي قصيدة "حدق في رأسك". يقول: حدق في رأسك.. أتري تلك البقع السوداء علي جدران الإدراك. مد يد المنطق كي تمحوها. وتأمل. هذا الأنبوب المحتقن بأوهام بكماء.. يدعي الهاجس. واسأل رأسك.. كيف يدوم الحال علي هذي الحال.. ولماذا تتشدق بمعان.. لا تقنع حتي الأطفال. قصائد كمال عبدالرحمن. لا تحتاج مثقفاً زائداً علي الحد. وإنما من بإمكانه أن يري مشاعره من أعلي.. أن يراها حوله كفراشات أو يشاهدها من أعلي من بين النجمات. سابحة في فضاء الروح. وليس بالإمكان أن تدعي أو تتباهي بأنك قرأت ديوانه في ساعة أو يوم.. هو قطعاً ليس من هذا النوع المبتذل الذي يشبه وجبة سريعة أو زجاجة مياه غازية.. هو أعمق من ذلك بكثير. وستكتشف أعمق ما فيه. حين تطويه. سيفهمني الأستاذ كمال عبدالرحمن جيداً. حين أقول إنه "مستفز" لمن يدعون الإبداع. ففي حضور كلماته سيتجلي كذبهم. والسبب ببساطة. يعرفه كل من اقترب من الأستاذ. الذي يكتب ويتكلم ويضحك ويغني بكل جوارحه.. يمارس كل ذلك ولا يدعيه. ولا يتصنعه.. هو من يحدق في رأسه. ويرتحل خلف رؤآه. وتطارده المرايا. فيترك ظله يسير في الطرقات بلا قدمين.. هو التعاويذ والبراءة والتأويل والدهشة. ** ما قبل الصباح: لم ينل التقديم المشوه من لذة الوجبة.. ومحمد علي سلطان يقترب كلما ابتعد.