يستقبل العالم الإسلامي بعد ساعات شهر رمضان المعظم. أصارحك أن الشهر الفضيل يرتبط في ذاكرتي بقراءتي الأولي لكتاب طه حسين "الأيام". مع أني لا أذكر متي بدأت الاختيار. والقراءة. في مكتبة أبي. وكانت مفعمة بالكثير من كتب اللغات والاقتصاد. وبالأقل من كتب التراث والأدب المعاصر. فإني أذكر قراءتي لكتاب "الأيام" جيداً. أذكر ظروف قراءته وتأثيراته في نفسي. كنت أقرأ كل ما تصادفه يداي. أذكر أقله. وأنسي معظمه. وحين قرأت "الأيام" لم يعلق في ذاكرتي إلا السياج الذي تصور الصبي أنه نهاية العالم. لم تتح له العاهة التي كان يعانيها أن يجيد التعرف إلي ما حوله. غابت تفصيلات المكان والزمان. فلم أعرف وقتها أن الأحداث جرت في الصعيد. وأن زمنها هو أواخر القرن التاسع عشر. ولم أرسم ملامح محددة للصبي. وإن بدا في مخيلتي علي الهيئة التي رسمها الفنان الكبير بيكار تعبيراً عن الأحداث. في القراءة التالية. أشفقت علي الصبي حين أخفق في أكل العدس. فحاول أن يقتل نفسه بالساطور. أغناني بيكار عن تخيل ما حدث برسمه للمشهد الدامي. أو الذي أوشك أن يكون دامياً. ولم تغادر الصورة ذهني منذ تلك الأيام البعيدة حتي الآن بل إنه كلما عراني الارتباك لسبب ما فرضت معاناة صبي الأيام نفسها علي ذاكرتي!.. أما القراءة الثالثة. فقد كانت هي الدافع لأن أكتب أولي محاولاتي: كتيباً صغيراً مطبوعاً سميته "الملاك". كتبته قبل أن أجاوز مرحلة الطفولة. تأثرت للغاية بالكلمات التي توجه بها الراوي إلي طفلته الصغيرة. يحدثها عن فضل أمها عليه. وعلي أسرته الصغيرة. أعدت قراءة الكلمات حتي حفظتها تماماً. وأقدمت علي محاولة المحاكاة في أول ما صدر لي من ورق مطبوع. تحدث طه حسين عن الملك الذي حنا عليه. وعلي ولديه. وتحدثت عن الملاك الذي فارقنا إخوتي وأنا ونحن صغار وأسرفت في اختيار الكلمات التي تبين عن الافتقاد والحب. مستعيناً أعترف بعبارات كاملة لطه حسين والحكيم والزيات والمازني وعبدالحليم عبدالله والسحار وغيرهم من كبار الأدباء في تلك الفترة. تعرفت إلي نجيب محفوظ فيما بعد حين قرأت للمرة الأولي رائعته خان الخليلي. ثم تعرفت علي يوسف إدريس في لياليه الرخيصة. الدرس الأهم الذي خرجت به من قراءتي للأيام. أن الإعاقة في الذهن وليست في الجسد. تحدي طه حسين إعاقته. واستطاع كما روي لنا في الأجزاء الثلاثة من الأيام أن يصبح أحد الرموز الثقافية. ليس علي مستوي مصر فحسب. ولا علي مستوي العالم العربي وحده. وإنما علي مستوي العالم كله. هذا كتاب قد يكتفي فيه القارئ بمتعة القراءة. وهي متعة عظيمة في ذاتها. الأجمل أن يجد في صياغة الكلمات ودلالاتها ما يدفعه إلي تحدي العقبات أياً كانت ومحاولة تقديم الإضافة.