قالت لي إحداهن يوما: "شفت احنا وصلنا لإيه؟".. قلت لها: "لإيه؟".. قالت: أنا حاصلة علي الماجستير في كلية العلوم ولا أجد عملاً ولدي كل المؤهلات التي تجعلني التحق بأي عمل مرموق ولكني لا أشترط ولا "أفاصل".. اذا ذهبت للعمل بالتدريس قالوا لي: مؤهلاتك أكبر من العمل هنا.. واذا طلبت عملا بمؤهلي قالوا: لا يوجد عمل لك.. وأري الأعمال والوظائف تذهب إلي المحاسيب ومن لديهم "واسطة" أو لمن يدفعون مقابل التوظيف.. وهناك أسعار معروفة لكل قطاع.. "شفت يا أستاذ احنا وصلنا لفين؟" قلت لها: يا ابنتي.. "احنا ماوصلناش".. نحن في هذه المنطقة من مئات السنين.. اعني منطقة الفساد.. هذا تراث عربي أصيل.. يموت المفسدون ويبقي الفساد.. "يموت الزمار وصوابعه بتلعب".. تموت الحلول وتعيش المشاكل.. ولم تفلح أي محاولة للسباحة ضد تيار الفساد الجارف.. وكل الذين حاولوا غرقوا وبقي الفساد العربي صامدا وأصيلا وراسخا.. تموت القواعد وتعيش الاستثناءات.. يموت القانون وتعيش الثغرات.. لأن الفساد شعبي وفلكلور قديم يردده الشعب ولا تعرف له مؤلفا ولا ملحنا "احنا اتولدنا ولقينا الاغنية ونرددها زي علي حسب وداد قلبي وزي يا بهية وخبريني علي اللي قتل ياسين وغيرهما". نحن نردد نشيد الفساد ولم نؤلفه ولم نلحنه ولم نخرجه.. الوضع الفسادي "والفصادي" استقر منذ مئات السنين.. والمشكلة التي لا حل لها أن الفساد شعبي ومحاولات الاصلاح رسمية.. واننا دوما نطالب الرسميين بالاصلاح ولا نتهم الشعوب بالفساد.. بل نري الشعوب ضحية لفساد المسئولين وحتي لو أن هذا الكلام الفارغ صحيح "طب ما المسئولين شعب.. نجيب منين مسئولين غير من الشعب؟".. "منين اجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه".. بمعني أن المسئول "من دقنه وافتله"..أي من ذقن الشعب.. لا أحد ينادي بإصلاح الشعوب.. الكل يهتف باصلاح أو اسقاط النظام ويتوالي إسقاط الانظمة في الدول العربية منذ الخريف العربي لكن نظام الفساد لا يسقط أبداً.. لأن المفسد الفاسد باق وفي أمان وهو الشعب.. لذلك لا تجد أي فرق بين نظام سقط ونظام ركب.. بين مسئول رحل ومسئول حل.. ونقول دوما: "تتعدد الأنظمة والشعب واحد.. تتعدد الأسباب والموت واحد.. تتعدد الأساليب والفساد واحد"..والفساد في الدول العربية لم يعد منكرا يخجل منه مرتكبه.. بل يتباهي به.. بل اننا نمدح الفاسد بأنه "بيمشي الحال وجدع وخدوم ومدردح" ونقدم الملتزم المستقيم الخلوق "الدوغري" بانه معقد "ومحبكها ومزودها وبيوقف المراكب السايرة". والشعار إما تمشي متأبطا الفساد ومعانقا له وتبقي وترقي أو أن تمشي عكسه فترحل وتسقط "وتغور في ستين داهية".. وأسوأ الفساد ألا تاخذ حقك والأسوأ منه أن تأخذ حق غيرك أو يعطيك إياه فاسد.. وفقدان الحياء أهم عوامل استشراء الفساد أي أن يكون الفاسد "بجح وتندب في عينه رصاصة".. والخطير جدا أن يصبح الفساد سلوكا يوميا لنا ونعتاده ولا نري غضاضة فيه ولا يطرف لنا جفن. واعتياد الفساد أخطر من الفساد نفسه.. أي يصبح الفساد قاعدة والصلاح استثناء.. وأشد من المنكر عدم انكاره وان نردد كلمة "عادي" التي أكرهها وأمقتها في كل حوار وفي كل مناسبة.. والأشد من هذا ما قاله رسول الله صلي الله عليه وسلم عن آخر الزمان "أن يأمر الناس بالمنكر وينهوا عن المعروف".. وهكذا يستقر المنكر ويترسخ الفساد وتبقي محاولات الإصلاح مستحيلة وعبثية وبلا جدوي.. والمأساة أن أحدا لم يعد ينكر المنكر ويأمر بالمعروف.. بل يأمر بالمنكر وينهي عن المعروف.. والمأساة الأشد وطأة علي النفس والقلب والتي لا يزيلها قلم أو لسان مهما بلغت رصانة الأسلوب وفصاحة اللسان أن الناس صاروا يفسدون ولا يشعرون.. وهذه الغيبوبة تجعل محاولات الإصلاح مهما بلغ إخلاصها فاشلة.. إذ نفترض أن يعرف الفاسد أنه فاسد ليستجيب لنصحك ويقلع عن فساده وهذا بالضبط ما قاله الله تعالي في القرآن الكريم: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون". مفسدون ولكن لا يشعرون.. مصيبة كبري "من هنا لشبرا".. وليت هذا فقط.. بل هم يظنون ويؤكدون أنهم مصلحون.. تخيل أن المفسد مصمم علي أنه مصلح لمجرد أنه يصلي ويصوم ويلتحي ويقصر الجلباب..تخيل عندما يكون الفساد باسم الله.. مؤكد هي غيبوبة وغضب من الله.. تماما مثل ذلك الذي غضب الله عليه فرزقه من حرام ورشوة وفساد وازداد غضبه عليه فبارك له في هذا الرزق الحرام.. وهناك ضلالان.. أو إضلالان..أن يضلني الشيطان وذلك إضلال وضلال مقدور عليه وربما أفيق منه.. أما ان يضلني الله فتلك الطامة الكبري حيث لا إفاقة ولا عودة ولا نجاة.. فالله تعالي يقول أيضاً.. يضل من يشاء ويهدي من يشاء ... لذلك أخشي أن يكون العرب قد اضلهم الله فعموا وصموا.. وأفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ويفسدون ويقولون إنهم مصلحون.. فهل من مخرج؟ وهل إلي خروج من سبيل؟ وهل من نهاية لفساد ابوالفصاد؟