أحد أهم المشاهد في السينما المصرية. مشهد "البريء" "أحمد سبع الليل" الشاب القروي المجند والذي يمضي خدمته العسكرية داخل معسكر للمعتقلين في الصحراء وذلك في لحظة اكتشافه المفاجئ أن زميله "حسين وهدان" وابن قريته المتعلم الذي كان يتعاطف معه ويحترم إنسانيته والذي زرع في قلبه حب الوطن والجندية والتصدي للاعتداء. أقول لحظة اكتشافه أنه ضمن المعتقلين باعتباره من "أعداء" الوطن. في هذه اللحظة المفاجئة الصادمة تتحول ملامح وجه أحمد زكي الذي يؤدي دور سبع الليل. وتكتسي بالدهشة والحيرة والاستنكار فكيف يمكن اعتبار من علمه حب الوطن من الأعداء.. حينئذ يندفع صوب قائد المعسكر العميد توفيق شركس "محمود عبدالعزيز" لكي يدافع بحرارة عن بلدياته الذي فطنه ودعاه وحببه في الجندية ومن ثم يرفض أن يقوم بتعذيبه ويقتاد الاثنان إلي داخل زنزانة واحدة. وتمر دقائق نتابع لحظات درامية مثقلة بالمشاعر وضاغطة داخل الزنزانة بينما يقوم المعتقل "حسين وهدان" وهو غارق في ضعفه وآلامه وآثار التعذيب علي وجهه وجسده وبصوت متقطع وواهن يشرح لابن قريته "البريء" المجند معني "وطن" ومن هم "الأعداء" فعلاً.. انهم بالقطع ليسوا هؤلاء الذين يتم اعتقالهم. في هذه المشاهد القليلة المشحونة يواجه الاثنان خطر الثعابين السامة التي يلقي بها قائد المعسكر السادي داخل الزنزانة إمعاناً في التعذيب وتجسيداً لمنتهي القسوة والتلذذ بتعذيب يفضي إلي الموت.. بالفعل يموت حسين وهدان بسم الثعبان. هذا الجزء من نهاية فيلم "البريء" فاجأني بينما أقلب بين قنوات التليفزيون أول أمس الجمعة وأيقظ شتي الانفعالات. فجلست أتأمله باستغراق حزين وكأنني أراه لأول مرة. فها أنا أشاهد علي الشاشة أحمد زكي وممدوح عبدالعليم نجمين لم يخفت بريقهما بالرحيل ولم أتخفف بعد من وطأة الشعور بالخسارة لفقدهما. وها هو ثالث رحل عنا منذ فترة قريبة تاركاً ميراثه وآلام فراقه محمود عبدالعزيز في دور مدير المعسكر وعبر خيالي أطل مخرج الفيلم عاطف الطيب الذي أكن له تقديراً ومعزة وإعجاباً بلا حدود.. والأربعة أثروا السينما المصرية وأثروا فينا نحن بلا شك فقد جعلوا من هذا الفيلم "البريء" 1986 متعة وان كانت مؤرقة يختلط فيها الهم السياسي بالهموم الاجتماعية التي كست مراحل عشناها واكتوي بنيرانها كثيرون من أبناء هذا الوطن ومازلنا ندفع فواتيرها. شخصية أحمد سبع الليل التي جسدها أحمد زكي باقتدار وحساسية الفنان الواعي بأبعادها كما رسمها المؤلف المبدع وحيد حامد وأضاف عليها من عنده خبرته الشخصية ووعيه بآفة الفقر والجهل.. "فالبريء" ليس بريئاً بقدر ما هو جاهل وأمي ومحدود التجربة ومعزول. وحسين وهدان الذي لعبه ممدوح عبدالعليم بقدرة تعبيرية تؤكد موهبته ليس بدوره "بريئاً" لأنه تعلم واكتسب وعيه السياسي عن تجربة وشعور بالالتزام ولذلك اعتبرته "السلطة" عدواً لها لأنه ببساطة يكشف عوراتها. والاثنان وثالثهما المخرج مسلحون. وسلاحهم الفن ويدركون أن الفيلم سلاح مؤثر فعلاً ونافذ حتي النخاع عندما يكون فناً جميلاً وصناعه ملتزمين مؤمنين بأهمية ودور هذا الوسيط بالنسبة للمواطن بما في ذلك القروي البسيط.. ولذلك تم منع الفيلم من العرض لسنوات طويلة وعندما شاهده من شاهده بعد السماح بعرضه سنة "2005" توالت التعليقات التي تكشف عن تأثيره القوي. ولكن وبعد أن رشقت السماوات المفتوحة بالأقمار الصناعية وأصبحت التكنولوجيا في متناول أمثال أحمد سبع الليل في القري. لم يعد في مقدور أي سلطة أن تمنع عملاً فنياً من الوصول إلي الناس. لقد تم حذف مشاهد النهاية الأصلية للفيلم التي ينتفض فيها المجند بعد أن اكتسب الوعي بإطلاق رصاص رشاشه علي جميع من في المعسكر.. واستبدلت النهاية بأخري تصور "البريء" وقد استعاد آلة "الناي" التي كان صنعها من البوص بعد أن ألقي البندقية. نهاية ليست منطقية ولكنها تستبدل العنف الدموي بالنغم البدائي الذي يعزفه البريء ورغم ذلك فإن هذه النهاية المحذوفة أصبحت الآن متاحة ويمكن الفرجة عليها علي الإنترنت بل ويمكن رؤية النسخة الأصلية للفيلم كاملة وبدون حذف. أما صناعها الراحلون فهم باقون. حاضرون وإن غيبهم الموت.