دعونا من فيلم الجزيرة "ولعب العيال ده". وتعالوا نهتم بما هو أهم وأخطر وهو أننا فاشلون تماماً في إدارة معاركنا مع الآخرين وأننا نفقد أعصابنا بسرعة ونفقد أيضاً توازننا بضربة خفيفة لا نستطيع امتصاصها. ومعاركنا مع الآخرين وحتي مع بعضنا فيها مزايدات رهيبة ومقرفة بطريقة "علِّي وأنا أعلِّي" ومن أعلي صوتاً ومن أكثر ردحاً ومن أطول لساناً وقلماً.. وعندما يفاجئنا أحد بفيلم مفبرك ومهلهل وتافه لا يمكن أن يصمد أمام المنطق والعقل.. ننسي نحن المنطق والعقل والكياسة والفطنة ونرد بالسباب والشتائم. فنقول مثلاً: "جزمة أو بيادة الجيش المصري أشرف من أمك".. والذي يرد علي الفبركات والأكاذيب والافتراءات بالسباب والشتم وانفلات الأعصاب مفلس فكرياً بالتأكيد ومهزوم في المعركة.. فالسباب عاجز لأنه فقد أعصابه.. ويبدو من سبابه "وردحه" أن الضربة رغم تفاهتها أوجعته. وأنا والله منزعج جداً من هذه الهشاشة التي أصابت المصريين وخصوصاً الإعلام الذي يتباري أقطابه ونجومه في السباب وقلة الأدب والتجاوز وشغل "المُبرشمين" ورواد الغرز.. والحجة السخيفة دوماً هي النزول إلي المستوي الفكري للجماهير من أجل الرواج والذيوع والإعلانات.. رغم أن دور الإعلام الذي مات ولم يشبع موتاً هو أن يرتقي بأذواق الناس ويرتفع بمستواهم الفكري والثقافي.. وإذا تدني الإعلام إلي حد السباب والقدح "والردح" فإن أي "مسطول" يمكن أن يصبح إعلامياً ناجحاً ونجماً براقاً. أنا منزعج جداً من ظاهرة الإسفاف واللسان الطويل والقلم "العويل" المنتشرة في مصر.. وهي ظاهرة تؤدي دوماً إلي نتائج عكسية.. فالذين تباروا في وطنية السباب "والهباب" ساهموا بقوة في نشر وترويج فيلم الجزيرة المفبرك والمسف.. "اللي ما شافش يشوف.. واللي ما يشتري يتفرج". ومن المحزن أيضاً أن حروبنا ومعاركنا كلها حتي مع الإرهاب قائمة علي رد الفعل وليس الفعل.. فنحن نتلقي الضربة الإعلامية أو الإرهابية ونرد عليها.. ودائماً يكون رد الفعل أقل تأثيراً من الفعل ويكون الصدي أضعف من الصوت.. ولا ينبغي أبداً أن تخوض مصر الكبيرة والعظيمة معاركها بطريقة "خذوهم بالصوت ليغلبوكم".. هذا أمر لا يليق بدولة يفترض أن لديها أسلحة فكرية وإعلامية وعسكرية فتاكة.. ووقوفنا في وجه الصغار بهذه الطريقة الفجة يجعلنا مثلهم صغاراً.. بل أصغر منهم.. ورد الكبير لا بد أن يكون كبيراً وإلا فهو لم يعد كبيراً. شيء مزعج ومحزن أن يسهل استفزازنا واستدراجنا إلي خانة الصغار ومنطقة الفجاجة والوقاحة.. شيء مزعج للغاية أن نبدو مترنحين أمام قناة فضائية لا أمام دولة.. وأن يستفزنا فيلم لا قيمة له ومصنوع بمنتهي السذاجة والغباء..والسؤال الذي لا أجد له جواباً: إلي متي لا تجيد مصر الفعل والحرب الاستباقية؟ إلي متي تكتفي بالصدي ورد الفعل؟ إلي متي يكون رد الفعل منفعلاً وصارخاً وقائماً علي المزايدات التي تدعي الوطنية؟.. إلي متي نفتقد الإحساس بالمسئولية في معاركنا وخلافاتنا ومصالحاتنا وأدائنا كله.. ومعركة فيلم الجزيرة ليست أول معركة ولن تكون آخر معركة نخسرها إعلامياً وفكرياً.. ومسلسل الخسائر سيستمر طالما أننا نتصرف بمنطق الدُبّة التي أرادت أن تطرد ذبابة وقفت علي وجه صاحبها فقذفت صاحبها بحجر قضي عليه.. والمصريون يواجهون ذبابة وقفت علي وجه الوطن بهذا الحجر القاتل.. والمأساة أن الحجر يدمي وجه الوطن ولا يصيب الذبابة بأذي.. بل إن الذبابة تطير بعيداً ثم تعود مرة أخري لتقف علي وجه مصر أو حتي علي كتفها ويعاود المزايدون غباءهم بقذف الوطن- بحجر لا يصيب الذبابة!!