كانت مكتبة أبي. التي تعلمت فيها القراءة - بالإضافة إلي الكتاب المدرسي - باعثا لأن أقرأ كتب "الكبار" قبل أن أقرأ كتب "الأطفال". قرأت طه حسين والحكيم والجبرتي والاصفهاني والمقريزي والماوردي وأجاثا كريستي والكسندر دوماس. قبل أن أقرأ كتب سعيد العريان وفريد أبو حديد وكامل كيلاني. أقصد كتبهم التي صدرت للأطفال. أتاح لي زميلي في الفرنسية الابتدائية ممدوح الطوبجي. قراءة كل تلك الأعمال. قام بدور مكتبة الإعارة. فهو يعيرني رواية. أعيدها في اليوم التالي. وأحصل علي كتاب آخر. وهكذا. والحق أن مكتبة الطوبجي لم تقتصر علي كتب الأطفال. فقد تعرفت فيها - للمرة الأولي - إلي صلاح جاهين. طالعني عالمه الإبداعي الجميل في قصائده الأولي. ومازلت أذكر - حتي الآن - ترديدي لأسطر القصيدة: القمح مش زي الدهب.. القمح زي الفلاحين.. عيدان نحيلة.. جدرها مغروس في الطين. وفي مطالع الستينيات. في الأيام الأولي لعملي بالصحافة. كنت أركب الترام أو الأوتوبيس إلي ميدان القلعة. أصعد في شارع المحجر. يطل - في أسفل - علي أحواش المقابر. وفي امتداد النظر علي أحياء القاهرة. أصل إلي دار المحفوظات. فأضغط علي الجرس المثبت بالباب. يعلو الرنين في المكان بكامله. هذا زائر ربما يكون لصا. فاحذروا!!. أرقي السلالم إلي القاعة العلوية. فسيحة. في جوانبها كتب ومجلدات. اطلب ما يعن لي قراءته. يجتذبني اسم الصحيفة. وقدم تاريخ صدورها. فأطلبها. زادت تلك الفترة من حبي القديم للتراث. أمضيت معظم حياتي في ثنايا الكتب. ثمة كتب أقرأها فلا أذكر أني قرأتها إلا عندما أصل إلي معلومة ما - ربما في نهاية الكتاب - بما يذكرني أني قرأته من قبل. وثمة - في المقابل - كتب تظل في داخلي - الذهن والوجدان معا - تناوشني. واستعيد ما بها من شخصيات ومواقف وأحداث. القيمة الأهم عندي هي معايشة آلاف الشخصيات والأحداث والتواريخ والمعالم والأفكار. الوجود الإنساني منذ بداياته. ومع أنه قد اتيح لي قراءة الكثير من الكتب. فإن الكثير من الكتب لم يتح لي قراءتها. أوزع ساعات اليوم - بصرامة - بين القراءة والكتابة وأمور الحياة اليومية. وإن كان أغلب الوقت للقراءة. لكن مشروعي القرائي لم يتحقق علي النحو الذي كنت اتطلع إليه. ما كنت أتصور أني سأقرأه في يوم واحد. ربما استغرقت قراءته أسبوعا أو أكثر. وثمة كتب أعيد قراءتها مرة ثانية. وثالثة. وفي كل مرة يبين الكتاب عن جوانب لم أكن قد تنبهت إليها. وأحيانا فإني أقرأ النص - في المرة الأولي - لمجرد المتعة. ثم أناقش - في المرة أو المرات التالية - ما يحمله النص من دلالات. في النص الواحد قابلية لبضع دلالات. وليس ثمة قراءة يمكن أن تستفد أبدا كل المعاني المطروحة فيه. ما يشغلني هو النص. لا شأن لي بحياة المؤلف ولا بموته. ولا بأن إزاحة المؤلف تؤدي إلي القراءة "التي هي في الأثر الأدبي قراءة استهلاكية تقيد القارئ بالمعني الحرفي للنص". ولا لتقريب القراءة من الكتابة بحيث يصبح القارئ كاتبا. النص هو الكتابة التي أقرأها العالم الذي يلح الكاتب في اجتذابي إليه. أو تنفيري منه. أعترف اني أفضل أن أقتني الكتاب. أشتريه. أو أحصل عليه بالإهداء. ولا استعيره. الكتاب الذي ابدأ في قراءته - إن كان يستحق القراءة بالفعل - أبدأ معه - في الوقت نفسه - علاقة صداقة. وقد يتحول إلي صديق جميل. فلا أتصور أني استغني عن صداقته. لا استطيع أن استغني عنه!. وحين أقرأ عملا إبداعيا. فإن قراءتي له تختلط باستعادة ذكريات شخصية. وتخيل. وتأمل. أحب الكتاب الذي يحتفظ برونقه. يضايقني اتساخ الصفحات أو تمزقها. أرمقها - في لحظات القراءة - بنظرة مستاءة. متكررة. والحق اني أحب الكتب بعامة. أحبها مصفوفة في داخل الأرفف. أو علي طاولة. أو في واجهات المكتبات. أو عند باعة الصحف. تجتذبني فأتأمل العناوين. وربما قلبت الصفحات بسرعة قبل أن يراجعني البائع فيما أفعل. أو يبدي تذمره. أجد نفسي بين الكتب كالمتصوف في الحضرة.