نشر الصديق الشاعر عمرو الشيخ" هنا علي صفحات جريدة "المساء" الأسبوع الماضي مقالة له بعنوان " قصيدة النثر .. لا بد من وقفة للتصحيح". ولا شك عندنا أن مقالته تلك كانت صدي لمؤتمر قصيدة النثر الذي شهدته مدينة دمنهور منذ أسبوعين وكان هو نفسه أحد المشاركين في فعالياته .. ولقد بدأ الكاتب مقالته بما يؤكد موقفه المضمر المضاد لقصيدة النثر وتجلياتها رغم زعمه بأنه يحبها ويكتبها. يظهر هذا الموقف عندما يقول نصا " كتعاملنا مع الحداثة و مابعدها باعتبارهما ظاهرتين فكريتين لا تتجلي تطبيقاتهما إلا في اختراق التابو الديني والكتابة عبر النوعية. تحديدا التعامل مع قصيدة النثر إبداعا و نقداپ" !!! وعلامات التعجب من عندنا ... فهذا الزعم لم يقل به أحد لا من منظري قصيدة النثر ولا من محبيها. وإنما الزعم بأن تجليات الحداثة وما بعدهما لا تظهر تطبيقاتها إلا في اختراق التابو الديني هو فقط زعم وإدعاءات مهاجمي قصيدة النثر الذين ينظرون إلي قصيدة الخليل وقصيدة التفعيلة باعتبارهما عائلات محافِظة لا تنكشف معانيها ولا ألفاظها علي غريب !! ولا أعرف كيف ينكر الشاعر عمرو الشيخ ما يسمعه من أساتذته وأصدقائه عن تخلفنا في مقارناتهم بيننا وبين الغرب بسبب الحداثة؟ أيري أن تخلفنا هذا كائنى بسبب آخر غير النفور من الحداثة وما بعدها؟ يعرض الشيخ مقدمته هذه ليصل إلي قوله متحدثا عن ظروف نشأة قصيدة النثر عند الغرب : " ستجد دائما ظرفا مجتمعيا ولد من رحم السياسة أفرز فلسفته التي صارت أما و مرشدا لمنجبها ثم تجسدت تجلياتها في العلم ثم الفن .. الادب تحديدا.أي أن الغرب عندما يتحرك من المطلق اللامحدود إلي الفيزيقي الملموس فقد استنزف الاول و تجاوزه"پ. والسؤال هنا ألم يشهد عالمنا العربي الظروف نفسها التي شهدها الغرب؟ لقد عاشت أوروبا كلها عصور الظلام والجهل والتخلف فانتفضت وثارت علي قديمها لتشرق وتتجلي الحداثة وما بعدها في كل الصور والمظاهر ومن ضمنها قصيدة النثر. فماذا عن العصور التي عاشها العرب وما يزالون يعيشونها حتي يومنا هذا؟ وما بال السياسة عند الغرب تفرز نتائجها بينما السياسة عند العرب لا يريدها لا هو لا أن تفرز نتائجها؟!! أكاد أجزم أن الظروف السياسية التي مر ويمر بها العرب تكاد تكون أقسي وأعنف من تلك الظروف التي مر بها الغرب المشار إليه وليت شعري كيف يتساءل الكاتب قائلا " أما نحن .. فبم مررنا .. ؟! لا شيء" !!! وكأن كاتبنا الجميل يعيش في العصر العباسي ولم يقرأ ما مرت به الأمة العربية من مآسي وحروب وجرائمَ وانهيارات. وكأنه لا يطالع حجم التراجع الفكري والثقافي والسياسي في ثقافتنا العربية. وكأنه وهو المؤمن المصلِّي المحافِظ لا يشهد بعينيه اتساع مساحة الإلحاد في العالم العربي .. الأمر الذي يكشف عن ضياع الإنسان وبحثه المستمر عن المطلَق بعد أن فقد إيمانه بكل شيء لا بغض النظر هنا عن موقفنا وحُكمنا من فكرة الإيمان أو الإلحاد لا إن حاجتنا للمراجعة والبحث عن تطوير أدواتنا المعرفية ومن ضمنها الشعر تأخر كثيرا. وقصيدة النثر العربية أو المصرية الحديثة والمعاصرة تَجَلي حقيقي وصادق لرغبة الإنسان في الهرب من فضائه الضيق ومن إسار بلاغة عربية أمسكت بتلابيبه ليظل رهين لحظته الماضوية السلفية. وليظل أسيرا لنظامه السياسي العفن القديم الذي استطاع بمهارة وبراعة أن يملي شروطه علي المثقف والمبدع ليدور في دائرته مدحا له أو هجاءً لمعارضيه. بينما قصيدة النثر خرجت لتثأر لنفسها من عصور الظلام التي عاشت سنين فيها وراء الأبواب بينما الشعر التقليدي والكلاسيكي يرفل في نعيم الخلفاء والأمراء والسلاطين. والمسألة ليست في أن يحب الشاعر عمرو الشيخ قصيدة النثر ولا في أن يكتبها. لكنها في موقفه هو من مفهوم الحداثة وما بعدها. وفي الخطر الذي يستشعره الكثيرون من مفهوم " الحرية " لأنه مفهوم يهدد ما يُظَن أنه ثوابت ومسلمات .. وماذا أكثر من أن تكون فكرة الشيخ عن قصيدة النثر أنها "عادية واستسلام جمالي ارتكانا لوهم الهامشي والمعيش والتفاصيل " !!! أمَّا الحديث عن المأزق الذي تمر به قصيدة النثر فيبدو للوهلة الأولي وكأن الآخر لا يعيش المأزق نفسه. والآخر هنا هو قصيدة الخليل أو قصيدة التفعيلة. وكلتاهما تعيدان إنتاج نموذج الآباء والأجداد معا. وأكبر تجلي لمأزقهما معا أنهما لا تقبلان تجديدا ولا إضافة لا في العروض ولا في القوافي بسبب التقعيد. أمّا قصيدة النثر حتي في ظل مأزقها فإنها فضاء مفتوح لا ينفي ولا يصادر. ولا يزعم امتلاكه لنسق ثقافي أو إبداعي وحيد ... فأي فضاء ينبغي أن يميل إليه المبدع؟ هذا الذي يضيّق عليه أم ذاك الذي يقول له اكتبْ ما شئتَ كيف شئتَ بشروط وضوابط فنية ؟!! والشروط والضوابط الفنية هنا هي التشكيل الجمالي باللغة. والتعبير عن الحاجة والشوق الإنساني المعاصر وليست فقط في الهامشي والمعيش والعابر والإغراق في التفاصيل كما أشار صديقنا في مقالته .