الميراث الذي يتركه الفنان المبدع يبقيه حياً وموجوداً مهما طال الغياب. لا رثاء إذن لصرح قائم ولا وداع لوجود نابض. فقط حزن عميق لا نملك صده. فاتورة الفراق قاسية أعلم ذلك وواجبة الدفع لا مفر ندفعها لا إرادياً بقلب مفطور فهم السابقون ونحن اللاحقون.. ولن يبقي سوي ما يمكث في الأرض وينفع الناس وليس أنفع للناس من فن جميل يخفف من قبح الحياة. محمد خان كان وسوف يظل موجوداً.. جل أعماله جواهر لا تخطئها العين وأنت تقلب في صندوق الخيالة السحري كان وسوف يبقي الفرع دائم الاخضرار في شجرة السينما المصرية العتيقة.. شخصياته تحمل جينات مصرية وجواز سفر إلي قلوب المصريين ومن دون نقاط تفتيش ورسميات وبلا حذلقة ولا صنعة ولا تكلف بنات وأبناء أسر مصرية بطبقاتها الدنيا والوسطي وبألوانها وتضاريسها النفسية السلسة والمعقدة المنبسطة والمتسلطة البسيطة والمزهوة بذاتها.. سكان الحواري وخادمات البيوت وعاملات المصانع وبنات وسط البلد ومن نلن قسطا من التعليم ومن انهين مراحله.. الحالمات بالحب والسجينات قصرا داخل أقفاص السلطة والاستبداد هذه الشخصيات كلها ومع تنوع سماتها وانتماءاتها نماذج حية تعيش زمانها في مراحل فاصلة في مسيرة الوطن وفي مناخ ما بعد الهزيمة ومرحلة الانفتاح الاقتصادي الذي فتح الأبواب لفساد متعدد الأشكال وجعل الوطن سوبر ماركت كبيرا يباع فيه كل شيء حتي الأخلاق وحيث لا شيء يعلو فوق صوت الملايين.. سنوات الذي خرج ولم يعد وعودة مواطن بعد سنوات من الهجرة للخليج.. وبعدما أصبحت 99% من أوراق اللعبة في أيد أمريكا.. سنوات تآكل أحلام هند وكاميليا وهزيمة رمزي أمام الدكتور عزمي وانتصار "الأساتوك" علي "بيتهوفن". محمد خان أحد فرسان الواقعية عبر منظوره الخاص وفارس المدينة كما يراها المشاهد الذي لم يكذب ولم يتحمل علي عصر متلون الشكل والمضمون انه فارس العذوبة واللفظية واللغات الرومانسية والسلاسة البصرية والقدرة التعبيرية. أعماله علامات طريقة مميزة تتوحد معها عفويا وتتجاوب مع ظروف أبطالها وتتفهم دوافعهم ومطباتهم النفسية وتبتهج مثلما تتألم وأنت تراقب انكسارات أحلامهم وبرغم ما تثيره فهي ليست وليدة الخيال ومن فرط الصدق الذي تستشعره وأنت تتابع حكاياتهم لا تملك إلا أن تتوحد معها. لم ينشغل محمد خان بقضايا سياسية مباشرة كان مولعا بشخصياته بالإنسان وسط بيئة مناهضة لأحلامه مع ذلك لا تكف عن الحلم ولم تستسلم أو تكف عن صنع الحياة.. ولم يتوقف هو نفسه كصانع فيلم عن اشاعة البهجة لأن ذلك من أساسيات وظائف السينما كما يؤمن بها ولم يكن بلا موقف وانما منحازا للإنسان من حيث كونه إنساناً في كل معاركه واشتباكه مع الحياة.. وأجمل ما يميز أعماله هذه العوالم المفتوحة. المنبسطة. المستبشرة. المستعدة لقطع المشاوير وصولاً لقناعاتها. قائمة أعمال تخلو من فيلم واحد ينتمي إلي تلك النوعية التي أسميها أفلام "الحارة السد" التي غالباً ما تصل بنا إلي لا أمل ولا مستقبل ولا إضاءة في نهاية النفق. محمد خان نفسه إنسان بشوش. حساس. مفعم بالحياة فنان بطبيعة تكوينه والفنان لا يخرج عن ذاته ودائماً ما تجد في أعماله جزءاً أصيلاً من تكوينه النفسي وثقافته وتجاربه الإنسانية ومفهومه عن ماهية الفيلم ودوره ودور الفنان صانعه. سوف يبقي من محمد خان الكثير الذي يجعله باقياً وحياً.. ففي قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية أربعة أعمال من إبداعه وهي "زوجة رجل مهم" و"ذهب ولم يعد" و"سوبر ماركت" و"أحلام هند وكاميليا" ومحمد خان باق بكل أعماله التي لا تكذب ولا تتجمل ولا تتكلف ولا تتحذلق ولا تمل من الفرجة عليها.