يدهشني الروائي الجميل محمد جبريل بقدراته الفذة وطاقته التي لا تفتر.. وحرصه علي أن يشتبك فنيا مع كل ما يحيط به.. فرغم المرض العضال الذي يعانيه مازال قادرا علي أن يقرأ ويكتب ويبدع.. ليس فقط في عموده اليومي الذي يضئ هذه الصحيفة.. ولكن أيضا في عمل. أو أعمال روائية طويلة وممتدة.. ينتصر بها لنفسه في مواجهة حالة الإحباط التي يراد فرضها عليه فرضا. ولا يعاني جبريل من آلام العمود الفقري التي ألزمته الفراش فقط.. وإنما يعاني أكثر وأكثر من تجاهل الدولة لمأساته رغم النداءات والمناشدات والمراسلات التي قام بها كثيرون.. ووعدت الحكومة بعلاجه علي نفقة الدولة وصدر فعلا قرار بذلك.. لكن البيروقراطية المصرية أجهضت القرار وأفرغته من مضمونه.. ومازال جبريل في فراشه ينتظر أن تعطيه الدولة بعض حقه في العلاج بعدما أنفق كل ما يملك علي الأطباء والعيادات والمستشفيات والعمليات دون فائدة. ودائما ينجح جبريل في تحويل كل لحظة من حياته يعيشها إلي فصل في رواية جديدة تتضافر خيوطها وتتشابك في جديلة متناغمة.. تربط هذه اللحظة الآنية بتجارب الماضي واستشرافات المستقبل لترسم صورة وتحمل رسالة وتعطي مغزي. اتضح هذا جليا في أحدث رواياته "مقصدي البوح لا الشكوي" التي نشرها في حلقات أسبوعية ب "المساء" ثم أصدرها في طبعة أنيقة من خلال هيئة قصور الثقافة.. وقد سجل فيها تفاصيل محنته الصحية.. وكشف كل الأطراف التي تعامل معها في هذه المحنة.. فجاءت أقرب إلي الصورة القلمية أو التحقيق الصحفي الاستقصائي.. وسماها "رواية تسجيلية". ورغم أنني تابعت الرواية من خلال حلقاتها الأسبوعية إلا أنني استمتعت أيما استمتاع بالإصدار الجديد.. كأني أقرأها لأول مرة.. يشدني أسلوب جبريل الذي يتدفق في السرد هادئا سلسا عميقا.. لا مكان فيه للقلق ولا للملل.. إنه حكاء ماهر يعرف كيف يمسك بك من أول كلمة فلا تنشغل عنه إلا وقد فرغت من صفحته الأخيرة. في "مقصدي البوح لا الشكوي" أنت لا تقرأ رواية واحدة ولكن عدة روايات وحكايات يقصها عليك كثيفة مركبة أحيانا.. وبسيطة خفيفة أحيانا أخري.. وفي كل الأحوال هي حكايات مقصودة ومتعمدة يأخذ بعضها بتلابيب بعض لكي تصلك رسالته مكتملة. وقد نجح جبريل - كعادته - من خلال هذه الرواية في أن يحول همه الخاص إلي هم عام.. وأن يضعك مكانه. فيجعلك بطل القصة رغم وعيك الكامل بأنه هو البطل والضحية.. واستطاع أن يعري الواقع المتخاذل الذي لم يكتف بالتخلي عنه في محنته وإنما تلاعب به وخدعه عدة مرات بمعسول الكلام والوعود وكثير المديح.. وهو الأديب الطيب - الساذج - الذي يصدق كل ما يقال له.. وتؤثر فيه الكلمة الطيبة.. ولم يقتنع حتي الآن رغم تجاربه الكثيرة والمريرة أن بلادنا تتعامل معنا بألف وجه ووجه.. وتمارس علي أمثالنا من السذج كل مهارات الشطارة والفهلوة. ومازال محمد جبريل يتمسك بالأمل.. وينتظر اليوم الذي يقوم فيه ويمشي مع حبيبته ورفيقته "زينب".. ويملأ الدنيا حركة رغم أنه لم يكن أبدا من هواة المشي. يقول في ختام الرواية: لا أذكر أنني كنت من هواة المشي.. لكنني سأحرص إذا أتاح الله لي حرية الحركة أن أمشي بلا توقف.. أنضم لتيارات الناس والزحام.. أخترق الأسواق والشوارع والميادين والحواري والأزقة.. أسير علي الكورنيش من رأس التين حتي المنتزه.. أستعي رؤي وذكريات.. لا يدركني الملل.. أستعير قول محمود درويش "إني هنا.. ومازلت حيا". ألم أقل إنه يكتب لينتصر لنفسه.. وقد انتصر فعلا.