في عام 1981 قدم المخرج الراحل مدحت السباعي من تأليفه وإخراجه فيلما يعنوان "وقيدت ضد مجهول" بطله فلاح بسيط اسمه "صابر" ترك القرية وذهب إلي المدينة لاستلام عمله كحارس علي بعض المنشآت العامة.. ولم يمر وقت طويل حتي وقعت بعض السرقات أثناء نوبة حراسته.. فيتم نقله إلي منطقة الأهرام حيث لا توجد هناك أشياء يمكن سرقتها.. ورغم ذلك تقع مفاجأة لا تخطر علي البال ألا وهي سرقة الهرم خوفو الأمر الذي يشعل الرأي العام والعالمي.. ويبدأ التحقيق في هذه السرقة الكبري غير المسبوقة ويهرع الصحفيون الأجانب إلي المنطقة ويحاول أحدهم مقابلة "صابر" الشاويش المكلف بالحراسة. وحتي لا ينفضح الأمر يقوم الضابط المسئول عن التحقيقات بنقل "صابر" إلي مستشفي الأمراض العقلية. وهناك يتقابل صابر مع "مجانين" يفضلون الإقامة داخل المستشفي حتي لا يتعرضوا لضغوط الفساد داخل المجتمع. ثم يظهر الهرم المسروق في المكسيك وتجري مقايضات لإعادته وتقيد القضية ضد مجهول. ويعود "صابر" إلي قريته ولكن المفاجأة الأكبر أن نهر النيل نفسه يتم سرقته وتقيد القضية أيضا ضد مجهول. وهذه القصة التي تصورنا أنها غارقة في الخيال وأن المخرج من فرط إحساسه بحجم الفساد وتوغل نقوذه تصور إمكانية سرقة الهرم بل ونهر النيل نفسه.. أي الحضارة الفرعونية الشاهدة علي مجد المصريين والنيل الذي وهب الحياة لمصر. وقتئذ شاهدنا الفيلم كعمل فنتازي بعيد عن الواقع ولكننا لم نغفل دلالاته وتفهمنا دوافع المخرج المؤلف التي جعلته يستسلم لهذا الخيال الكابوسي ويفترض وقوعه.. فقد وصل الفساد إلي "الركب".. كما قال أحد الفاسدين النافذين في عصر الرئيس "مبارك". وقبل تنحيه منذ خمس سنوات كان الفساد قد وصل حتي "الأنوف".. وبعد الثورتين أغرقنا الفساد وزادت نسبة الفاسدين ودخلت شرائح جديدة فيه واستقطب أباطرته "حراسا" له من الشباب واستحدثوا منابر للترويج والدعاية لصناعه فلم تعد سرقة الهرم ولا نهر النيل "فانتازيا" وانما واقع وجريمة سرقة قيدت ضد "معلوم" واناس ضالعين في جريمة السطو.. فقد وصلت الجرأة وموات القلوب واختفاء الحس الوطني لدي اللصوص إلي درجة بيع أحجار الأهرامات للسائحين. وهانت علي البعض "حضارة" هذا البلد ولم ينتبهوا إلي أن سرطان الفساد استشري بدرجة كبيرة ولم يعد أمثال "صابر" الفلاح الغشيم يصلح للحراسة. "صابر" نفسه علمته الفوضي والمال السايب وإغراء الفلوس أن "الشرف" قد رحل بلا عودة وأن "الأخلاق" يمكن أن يحرسها رجل مليونير مرتش وتاجر دين. متلون بألف قناع. المثل الشعبي القديم الذي يقول "حاميها حراميها" يتحقق مع كل واقعة فساد. صار المثل حقيقة معاشة حين أصبح من الممكن أن يقود الانتهازي اللص حملة لحماية الأخلاق وأن يستند إلي صبية نصابة سطت علي أموال البعض وتحايلت علي القانون ببرنامج للأطفال يتخذونها مثلا وقدوة. وإن سرقة الأهرامات إذن ممكنة"!" وكانوا قد استباحوا دمه في عصر الجماعة وطالب أحدهم باسم الدين بنسفه باعتباره صنما.. فالتدهور الأخلاقي والقيمي ينمو حثيثا وفيروس الفساد ينتشر كالسرطان. وها هو نهر النيل يتعرض للإهمال ويفقد قداسته ويصبح موضوعا للتآمر الدولي وكان المصريون يزفونه سنويا ويحتفلون بعرسه صار علينا أن نخوض معارك قانونية ودبلوماسية من أجل حفظ حقوقنا المشروعة من مياهه.. وألا نترك القضية تنتهي إلي الحفظ لعدم ثبوت الأدلة أو أنها تقيد ضد مجهول.. فالتهديد صار متعدد المصادر من الخارج والداخل يتضح هذا في سيناريو تركيع وتفكيك مصر الذي نتابع وقائعه منذ سنوات "الفانتازيا" في زمن الترهل القيمي والأخلاقي والإنساني الحضاري تعرضت لفيروس التحول فأصبحت "واقعية جديدة" تتم احداثها في الفضاء علي الأرض وفي الصحاري والبحار وعند منابع النيل وفي أحضان المعابد والآثار التاريخية ويسند البطولة في حبكاتها لدعاة الدين وكهنة المعبد الإعلامي الممول لصناعة الأكاذيب والتضليل والتشويش.. انهارت الحدود والسدود بين الحلال والحرام فلم يعد "الحلال بين والحرام بين" لأن "التبيان" يحركة الهوي والغرض والمصلحة والأجندات السياسية الخارجية والداخلية.. انقلبت الموازين بشكل عملي ساطع الوضوح.. والمستحيل الذي كان صار ممكنا الآن. والمخرج الراحل مدحت السباعي استشرف المستقبل. هزه الخوف من الفساد فتخيل سرقة أعز ما نملك كبلد يعتز بتاريخه وحضارته. ولم نعترض أن السارق غريب وإنما من أبناء هذه البلد نفسه.. ولم يخطر في باله أن نبوءة فيلمه ستتحقق فعلا ويكون اللص معلوما. في زمن الفتنة والمؤامرة الكبري الدولية والمحلية ينشط الناشطون اللصوص والمخربون اللصوص. والمشتاقون إلي السلطة اللصوص. وعملاء اللصوص هم أنفسهم لصوص فتعبير سرقة الأهرامات والسطو علي مياه النيل جرائم عادية ومن دون أن تستدعي قدرات غير عادية. قصة "صابر" ابن القرية المصرية عسكري الأمن ورئيسه الذي قاد التحقيق في سرقة الهرم. ليست من الخيال العلمي فها نحن بعد 35 سنة من عرض الفيلم أصبح الخيال واقعا نشهد فصوله.