وجلس صبري علي الأرض في اعياء شديد وتراجع بظهره إلي الوراء مستندا علي ذراعيه في حين راح العريف فتحي يتحرك بحذاء السور لجهة اليمين منحنياً ثم لا يلبث أن يرقد علي الارض ليراقب الموقف من الوضع الافقي وهو الوضع الذي يتيح له افضل رؤية وسط الظلام وغاب عن زميله الذي كاد النعاس يثقل جفونه بضع دقائق ثم لم يلبث أن عاد إليه وهو يلهث وقال هامساً: هناك فتحة في السور خلفها كوخ يبدو أنه كوخ صيادين مهجور. وتساءل زميله وهو يغالب رغبته في النوم. هل تأكدت من خلو الكوخ؟ ليس في المنطقة كلها صريخ ابن يومين دعنا الآن نعبر الثغرة ونستريح بداخله وقاد فتحي زميله الي الثغرة الصغيرة في سور السلك الشائك وراح كل منهما يعاون الآخر في العبور من خلالها حتي نجحا في المرور الي الناحية الاخري واخذ الاثنان يقتربان في هدوء من الكوخ الذي لا يبعد عن السور سوي بضعة امتار قليلة وما كاد الجندي صبري يلامسه حتي نظر الي زميله الذي كان يرقد علي الارض خلفه وقال: إنها كشك صاج ما رأيك؟ ندخل.... ان الباب اليمين وانا سألتف من اليسار. ولم يكد العريف فتحي يطل برأسه علي جانب الكشك الايمن حتي وكز زميله بقدمه ليوقفه قبل ان يلتف يسارا ثم تراجع برأسه وقال هامساً: الباب من هنا. ودخل الاثنان الي الكشك الخالي ولم تكن بهما رغبة لعمل شئ سوي النوم لقد طالت معركتهما وطال معها السهر واليقظة ولم تذق عيناهما طعما للنوم ثلاثة ايام متوالية ولم يمض وقت طويل حتي كان الاثنان رغم ارتعاش جسديهما يستغرقان في نوم عميق لم يوقظهما منه سوي خيوط النهار البيضاء وهي تتسلل في الساعات الاولي للصباح. لتنتزع من الكون حلكته. وتذكرهما بأن هناك ما يجب عليهما ان يتحققا منه وهو ان يعرفا علي وجه التحديد اين هما الان؟ كان العريف فتحي اكثر نشاطاً من زميله فلم يكد يفتح عينه حتي هب من رقدته وجلس يتلفت حوله كأنه لا يصدق إن ما مر به كان حقيقة أو كأنه كان يعيش تحت تحت وطأة كابوس رهيب ولكن سرعان ما تنبه لخطورة وضعهما وترامي الي مسامعه صوت حركة قريبة جعلته يرهف السمع لعله يتمكن من التقاط اصوات تجيب علي السؤال الحائر في نفسيهما وأخذ يزحف جالسا حتي اقترب من الباب الوحيد للكشف وأطل برأسه الي الداخل وهو لا يكاد يصدق ما رآه وهز زميله الذي كان لا يزال بغمض عينيه وان كان متيقظاً فتنبه علي الفور وتطلع إليه بعينين مسهدتين وقال متسائلاً: ماذا هناك؟ رحنا بلاش يا صبري إننا داخل النقطة القوية للعدو انها علي مسافة عشرة امتار منا. فرد بدهشة: مش معقول. تعالي انظر ان الاسرائيليين يقفون علي نقط المراقبة. ومضت فترة من الوقت يخيم فيها الصمت والذهول علي الرجين ولكن الجندي العملاق سرعان ما نظر الي العريف وقال في غير مبالاة: إننا حينما دخلنا الي هنا كنا نضع في اعتبارنا انه من الممكن ان نكون قد ضللنا طريقنا ووصلنا الي نقطة العدو ومع ذلك لم نكن نستطيع ان نفعل شيئاً. فقال فتحي متسائلا والقلق يرتسم في عينيه وفوق ملامحه: والآن ماذا سنفعل إذا جاء احدهم الي هنا؟ إننا يجب ان نبحث عن طريقة للخروج بسرعة. نخرج من حيث جئنا. مستحيل نخرج من هذا الباب انهم سيروننا بسهولة. إذا فكر انت وقل لي لقد جئت بك الي هنا وعليك ان تأخذني الي الموقع الاول. لقد أدخلتنا بفكرك الي المصيدة إنني لا اعرف ما الذي يجب علينا أن نفعله يخيل إلي أن أحدهم لا يلبث ان يحضر الي هنا ولكنني اتساءل فيما يستخدمون هذا الكشك؟ وألقي الجندي نظرة سريعة علي الكشك الذي أحدثت به الشظايا ثقوباً عديدة فأدخلت أشعةالفجر إليه توضح محتوياته وتجيب علي سؤال العريف فتحي لقد كان هذا الكشك فعلاً يشرف علي البحر وترتفع علي جانبه الموازي للشاطيء رخامة مستطيلة بينما تتشابك بداخله ثلاثة حبال نشر علي أحدهما غيار داخلي. ولم يكد صبري يراه. حتي هب من جلسته وقال كأنه عثر علي كنز ثمين: يافرج الله كأنه أعد خصيصاً لي ثم نظر إلي صاحبه وهو يتناوله وقال: لقد بدأت أشعر بأننا سننجو إن كل شيء يوحي إليَّ بذلك. وشرع في خلع ملابسه الممزقة والمبللة وأخذ يرتدي ذلك الغيار الذي لم يكن يخطر له علي بال بينما راح زميله ينظر من خلال الثقوب في ذلك الجانب الذي يطل علي النقطة القوية ليري ما يدور فوقها ثم لم يلبث أن نادي علي زميله متلفهاً: تعالي انظر هنا إن النقطة تبدو من هنا أكثر وضوحا. فسارع صبري ينظر من ثقب آخر جوار زميله ورأي من خلاله جندياً يحمل رشاشاً وينزل من فوق أحد السلالم. ثم يختفي داخل الأرض. وقال فتحي: انني أري الآن سبعة أفراد علي قمة النقطة إن معهم ثلاثة كلاب. يبدو أن الكلاب مصابة بالزكام أو لعلها كلاب زينة. ياسلام لوكنا عشرة أفراد وكان معنا سلاح وذخيرة كنا في دقيقتين اقتحمنا النقطة. يا أخي دعنا نفكر كيف نخرج من هنا. وجلس علي الأرض مستنداً بظهره علي الجانب الذي كان يراقب منه النقطة. ولكنه هب كمن لدغه ثعبان واقترب من زميله وقال هامساً: صبري انظر سنخرج من هنا. ونظر زميله ليري فتحة أسفل جدار الكشك الموازي للبحر أسفل الرخامة إن هذه الفتحة هي بداية مجري صغير لتسرب مياه الغسيل إلي البحر وتطلع صبري إلي زميله وقد تهللت أساريره وقال مبتهجاً: ينصر دينك يا أبو التيح لأول مرة تفكر صح. واندفع الاثنان أسفل الرخامة علي جانبي الفتحة وبسرعة البرق راحا يوسعان الحفرة حتي تسمح بخروج جسديهما خارج الكشك واستغلا في ذلك الخناجر التي يحملانها علي جانبيهما وقال صبري وهو منهمك في جذب التراب الناتج عن تعميق الحفرة داخل الكشك: سوف نزحف نحو الشاطيء بميلة للخلف لأنهم يراقبون في الأمام وعندما نصل إلي البحر سنظل محتمين تحت المياه ولا نرفع رؤوسنا إلا لنتنفس وسنظل هكذا حتي يصل عمق المياه إلي رقبتينا وعندئذ نأخذ جهة الغرب ونسير كما فعلنا بالأمس وكن علي حذر عندما نجتاز السلك الشائك. فابتسم العريف وقال في دهشة: من منا يلقي الأوامر هنا يا بعكوك؟ فوكزه الجندي في صدره وقال دون أن يتوقف عن العمل: أنت طول عمرك معقد حتي في الحرب لعلك لا تنسي عندما نعود أنني أنقذت حياتك وتقف أمام الطابور تستعرض عضلاتك في التعقيد علي أبداً يا صبري ودين النبي أنت منذ الأمس أقرب إلي قلبي من أخي فنظر إليه الجندي غير مصدق وقال: مش معقول لأول مرة كلامك حنين يبدو أنك تشعر أن نهايتك قربت بالعكس إني أشعر أن الله معنا وهذا يريح نفسي. استعد إذن للخروج إن هذا العمق يكفي. ودفع العريف ببندقيته خارج الكشك ثم نظر إلي زميله وقال: الله فأجاب هذا علي الفور: أكبر إن هذه الكلمة بهذه الكيفية كانت لربط القلوب والمصير لرجال الدوريات في عمق العدو يقولونها عندما يوشكون علي التفرق لتنفيذ المهام. وانساب جسد العريف من خلال الفتحة حتي اختفت قدماه خارج الكشك وأسرع الجندي صبري يلقي نظره علي النقطة من الجدار المقابل ليري إن كان قد حدث ما يلفت انتباههم ولكنه اطمأن عندما رأي نظارات الميدان فوق أعينهم تراقب الأرض بين النقطة والموقع الأول وتناول غياره الداخلي الممزق والمبلل وعلقه علي أحد الجبال وهمس لنفسه كأنه يروح عنها ومخاطباً غياره: إنني آسف لتركك ولكنك بلاشك تقدر موقفي سلام عليكم. وفي حذر شديد أخرج رأسه من الفتحة فوجد زميله قد قارب علي الوصول إلي المياه وهو لايزال ينظر خلفه ليطمئن علي خروجه وظل صبري يزحف داخل المجري حتي وصل إلي السور الشائك وحمد الله أن السور به فتحة تتسع لمرور جسده لقد خدشتهما الأسلاك ليلة أمس وأدمتهما وهما يحاولان المرور من خلالها ولكنهما هذه المرة لن يضطرا إلي ذلك. وشعر الاثنان باطمئنان كبير حين غمرتهما المياه لقد كانت الامواج ساكنة تماماً وهما يشقان طريقهما داخل البحر زاحفين علي الأرض ولا يرفعان رأسيهما إلا لثوان قليلة يستنشقان فيها كمية كبيرة من الهواء ثم يختفيان تحت سطح المياه مرة أخري ويواصلان التقدم نحو العمق. حتي أصبح الماء في المستوي الذي يمكنهما من التحرك علي أقدامهما فأوليا وجهيهما يساراً وسارا بحذاء الشاطيء والنقطة القوية عنده تبدو ساكنة لأعينهما يتوسطها ذلك البرج الذي كان علامة بارزة في عمليات الاستطلاع التي كانا يخرجان إليها مع قائدهما قبل الحرب. كان العريف فتحي هذه المرة وافر النشاط وكان يسير إلي جوار الجندي صبري عرفات ود عاد الأمل يبرق عينيه ويشيع في نفسه روح التفاؤل والثقة وقال لزميله وهو ينظر نحو الشاطيء: هناك دبابات أمام النقطة يبدو أنها عاطلة. فألقي صبري نظرة علي الشاطيء فوجد بعض الدبابات تقف علي مقربة من النقطة وفوهات مدافعها مصوبة نحوها وقال لزميله: لقد كنت متيقناً أن الهجوم علي النقطة قد فشل لقد جعلت قواتنا في هذا القطاع رأسها في الحائط. إن طبيعة المنطقة هي التي فرضت عليهم اختيار طريقة الهجوم علي النقطة. ولماذا نجحنا إذن في الوصول إليها ضحك زميله وقال: حلوة نجحنا دي وهل كان في نيتنا أن نصل إليها؟ إن كل ما حدث كان مصادفة إنني أعتبر أنفسنا محظوظين. ليتهم أمرونا بالهجوم علي النقطة من الخلف لقد كان بمقدورنا أن نفتح الباب لتتقدم قواتنا نحو الشرق إنني لا أتصور أن النقطة التي رأيتها مازالت قائمة في وجه تقدم المشاة كان يجب أن تكون أول نقطة تسقط. إنهم سوف يصابون بدهشة بالغة عندما يعرفون أننا قضينا ليلة بداخلها إنني ألمح الموقع الأول إن البرج الأيمن قد ظهر ولكن زميله أجاب قائلاً: يخيل إلي أن هناك صوت طائرة فأرهف زميله السمع قليلاً ولم يلبث أن قال: فعلاً طائرة هليكوبتر. واستدارا إلي الخلف وهما يتطلعان إلي السماء وأخذت أعينهما تجوب الفضاء بحثاً عن الطائرة مصدر الصوت ولمحها العريف فتحي فأشار لزميله ناحية النقطة وقال: إنها يسار الكشك. فعلاً اخفض رأسك ولا تتوقف عن السير. وعادا إلي لعبتهما في الغطس والظهور ولكن صوت الطائرة ظل يقترب حتي أيقنا أنها تستهدفهما وظلا يبحلقان في الكابينة الزجاجية للطائرة وهي تندفع نحوهما. حتي أصبحت في ثوان قليلة تحلق فوق رأسيهما وقال فتحي لزميله وقد أصابه الاضطراب: ضعنا يا صبري إن الطيار قد رآنا لقد خيل إليه أنها لن تلبث أن تطلق رشاشاتها نحوهما لتضع حداً لمغامرتهما المضنية ولكن الطائرة ظلت تحوم فوق رأسيهما وتزيد مشاعر الحيرة والخوف في نفسيهما وأصيب الاثنان بذهول تام حين فوجئا برجل خلف الطيار يلوح لهما بيده ويشير إليهما بالاتجاه نحو الشاطيء وقال صبري مندهشاً: إنهما يريدون أسرنا . وأجابه زميله وقد اشتد حنقه: لو كان سلاحنا صالحاً لو كانت هناك أسلحة أخري في الموقع الأول أكثر صلاحية وفاعلية من سلاحنا ولم يكمل كلامه حتي فوجئا بالطلقات فقد غمرت الفضاء ومضات بيضاء لقذائف المدفعية المضادة للطائرات.. واندفعت الطلقات الكاشفة تحيط بالطائرة وتحاصرها وسرعان ما استدارت داخل البحر وانخفضت فوق سطخ المياه ثم اندفعت نحو الشرق تلوذ بالفرار ولم تكن هي نهاية المتاعب فقد اعتقد أفراد الموقع الأول شرق بورفؤاد أن الطائرة كعادتها كانت تبحث عن الطيارين الذين يقفزون من طائراتهم بعد إصابتها وتحاول التقاطهم فأطلقوا النار عليها ليمنعوها من أداء مهمتها ولكنهم فوجئوا بالرجيلن يندفعان في اتجاه موقعهم وأثارت جاكتات النجاة الحمراء حول الجنديين شكوكهم فأطلقوا دفعة من النيران تمهيداً للايقاع بهما وفوجيء صبري بالطلقات تصفر فوق رأسه ولكنه لم يتوقف عن السير بينما خلع فتحي سترته وأخذ يلوح بها للرجال الذين تجمعوا علي الشاطيء وهم يحملون أسلحتهم. قال صبري لزميله: لا تتوقف عن التلويح وسأقترب لأنادي عليهم. انتظر حتي نتأكد من معرفتهم لنا إنهم يطلقون النار علينا. إنها نيران تهويش ولو كانوا يريدون إبادتنا لفعلوا. وفوجئا بصوت من علي الشاطيء يصرخ فيهما: ارفعا أيديكما لأعلي وامتثلا علي الفور للأمر وظلا يتقدمان بسرعة علي الشاطيء حتي صوت يهتف بهما: تعالوا يا وحوش. وما هي إلا لحظات حتي كان الجنديان يتمددان في إعياء داخل ملجأ قائد الموقع الذي راح هو ورجاله يتبارون في الاعتناء بالرجلين القادمين من خلف خطوط العدو ويقدمون إليهما طعاماً ساخناً راحا يلتهمانه في سعادة ونشوة وعلما من قائد المواقع أن الدورية قد وصلت ليلة أمس وأنهم قد تحركوا إلي بورفؤاد وبعد أن نال الرجلان راحتهما وتناولا أكواب الشاي والسجائر حملتهما إحدي العربات الجيب إلي بورفؤاد وتوجها إلي المبني الذي كانت الدورية تشغله قبل الخروج إلي المعركة فوجدا زملائهما يغطون في نوم عميق فتمددا في إحدي الحجرات فوق إحدي البطاطين الزرقاء وقال الجندي صبري لزميله وهو يتمدد إلي جواره: من يصدق إننا هنا مرة أخري إن أذني يملؤها رنين ثقيل. وأجابه فتحي وهو يتوسد ذراعيه لينام: إني في حاجة إلي يومين من النوم إن السماء لو انطبقت علي الأرض فلن توقظني ولكنهما ما استيقظا مع بقية الرجال علي صوت انفجارات هائلة هزت قطاع بورفؤاد وبورسعيد بعنف بالغ لقد كانت هذه المرة أشد عنفاً مما تعودوا علي سماعه لقد هبوا من نومهم وقد أخذتهم المفاجأة وصاح العريف محمد صاير متسائلاً في انزعاج:ما هذا ؟ فأجابه أحد زملائه الذين كانوا في المؤخرة بهدوء وهو يضحك: لا تخافوا إنها حصة طيران مستمرة منذ ثلاثة أيام لقد تعودنا علي ذلك. فنظر الجندي صبري إلي العريف فتحي وقال بضيق شديد: لو كنت أعرف أن المواقف هنا هكذا كنت بقيت في الموقع ولكن زميله لم يكن ليصدق أنه كان سيفعل ذلك حقاً. تمت