رئيس وحدة الأبنية بمجلس الدولة: التحول الرقمي يساعد في تقريب العدالة الإدارية    «القصير»: تطوير قانون التعاونيات أولوية لوزارة الزراعة خلال المرحلة القادمة    جيش الاحتلال يزعم: قواتنا اغتالت أكثر من 100 مخرب في رفح    التشكيل - مانشستر سيتي بالقوة الضاربة وسون يقود توتنام في مواجهة تحديد اتجاه الدوري    الداخلية تكشف كواليس فيديو "زفة" مطروح    يسرا وريا أبي راشد تخطفان الأنظار في مهرجان كان السينمائي الدولي    قصواء الخلالى: مصر داعية للسلام وإسرائيل جار سوء و"ماكينة كدب بتطلع قماش"    فيديو.. عالم أزهري: الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان.. والتراث ليس معصوما من الخطأ    اعرف قبل الحج.. هل الطواف حول الكعبة من الدور الثاني أو الثالث ينقص الثواب؟    81 مليار جنيه لمشروعات الوادي الجديد، نائب المحافظ تكشف التفاصيل خلال حفل المعهد الصحي    تحكم في وزنك من خلال تعديلات بسيطة على وجباتك    الشيبي: بيراميدز يستحق التتويج بالدوري.. ولا أحب خسارة أي تحدِ    وزير الدفاع البريطاني: سنزود فرقاطاتنا بالبحر الأحمر بقدرات هجوم بري    جامعة الأقصر تفتتح مركزًا للطلاب ذوي الإعاقة    إنفوجراف| 5 معلومات عن السيارات الكهربائية في مصر    تعرف على القطع الأثرية المميزة لشهر مايو بالمتاحف.. صور    «السرب» يتصدر قائمة الإيرادات و«على الماشى» يتذيل الترتيب    وزير الأوقاف: نسعى لاستعادة خطابنا الديني ممن يحاول اختطافه    غدًا.. الحكم على المتهم بدهس «طبيبة التجمع»    جامعة الزقازيق تتقدم 46 مركزا بالتصنيف العالمي CWUR لعام 2024    أسهل طريقة لعمل الكرواسون بالجبنة في المنزل.. وجبة خفيفة للفطار والعشاء    قبل البيرة ولا بعدها؟..تعليق علاء مبارك على انسحاب يوسف زيدان من تكوين    أحمد موسى يفجر مفاج0ة عن ميناء السخنة    الأربعاء.. انطلاق فعاليات الدورة الثانية لمعرض زايد لكتب الأطفال    بعد تصدرها التريند.. ما هي آخر أعمال نسرين طافش؟    مفاجأة كبرى.. ديبالا في مدريد هذا الصيف    الإحباط والغضب يسيطران على العسكريين الإسرائيليين بسبب حرب غزة    تنظيم 10 ندوات لمناقشة المشكلات المجتمعية المرتبطة بالقضية السكانية في شمال سيناء    الاتحاد الأوروبي يوسع عقوباته على إيران بسبب روسيا    بعد تصدرها التريند.. تعرف على آخر أعمال فريدة سيف النصر    محافظ أسوان يكلف نائبته بالمتابعة الميدانية لمعدلات تنفيذ الصروح التعليمية    جامعة كفرالشيخ تتقدم 132 مركزا عالميا في التصنيف الأكاديمي CWUR    شعبة الأدوية: الشركات تتبع قوعد لاكتشاف غش الدواء وملزمة بسحبها حال الاكتشاف    القاهرة الإخبارية: فصائل المقاومة نصبت أكمنة لمحاور التوغل الإسرائيلي برفح    المدير الفني ل «نيوكاسل يونايتد»: نعلم مدى صعوبة مباراة مانشستر يونايتد غدًا    يخدم 50 ألف نسمة.. كوبري قرية الحمام بأسيوط يتجاوز 60% من مراحل التنفيذ    "العيد فرحة".. موعد عيد الأضحى 2024 المبارك وعدد أيام الاجازات الرسمية وفقًا لمجلس الوزراء    برلماني: مصر قادرة على الوصول ل50 مليون سائح سنويا بتوجيهات الرئيس    مصرع شخص غرقاً فى مياه نهر النيل بأسوان    هيئة الأرصاد الجوية تحذر من اضطراب الملاحة وسرعة الرياح في 3 مناطق غدا    «على قد الإيد».. أبرز الفسح والخروجات لقضاء «إجازة الويك اند»    الغندور يثير غضب جماهير الأهلي بسبب دوري أبطال أفريقيا    بالصور.. وزير الصحة يبحث مع "استرازنيكا" دعم مهارات الفرق الطبية وبرامج التطعيمات    طالب يضرب معلمًا بسبب الغش بالغربية.. والتعليم: إلغاء امتحانه واعتباره عام رسوب    تأجيل محاكمة المتهم بقتل زوجته بكفر الشيخ لجلسة الخميس المقبل    أبو الغيط أمام الاجتماع التحضيري لقمة البحرين: التدخل الظولي بكل صوره أصبح ضرورة للعودة لمسار حل الدولتين    «أبوالغيط»: مشاعر الانتقام الأسود تمكنت من قادة الاحتلال    دعاء للميت في ذي القعدة.. تعرف على أفضل الصيغ له    «الداخلية»: ضبط 25 طن دقيق مدعم قبل بيعها في السوق السوداء    السيد عبد الباري: من يحج لأجل الوجاهة الاجتماعية نيته فاسدة.. فيديو    خسائر طائلة، عقوبة عدم الالتزام بدفع شروط التصالح في مخالفات البناء    مفتي الجمهورية يتوجه إلى البرتغال للمشاركة في منتدى كايسيد للحوار العالمى..    مصر تدين الهجوم الإرهابى بمحافظة صلاح الدين بالعراق    نموذج RIBASIM لإدارة المياه.. سويلم: خطوة مهمة لتطوير منظومة توزيع المياه -تفاصيل    "مقصود والزمالك كان مشارك".. ميدو يوجه تحية للخطيب بعد تحركه لحماية الأهلي    المندوه يتحدث عن التحكيم قبل نهائي الكونفدرالية أمام نهضة بركان    الإسكان: الأحد المقبل.. بدء تسليم الأراضي السكنية بمشروع 263 فدانا بمدينة حدائق أكتوبر    مجدي عبدالغني يثير الجدل بسؤال صادم عن مصطفى شوبير؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة واقعية من بطولات رجال الصاعقة خلال حرب أكتوبر المجيدة
نشر في المساء يوم 08 - 10 - 2015

وعلي الجانب الآخر كان العدو يستعد لمحاولة جديدة ويحشد في هذا الاتجاه مجهودا كبيراً للمدفعية والدبابات والمشاة الميكانيكي ليفتح بهذه القوات الطريق الي الحصن الشمالي والذي تغلقه مجموعة من الرجال لا يعرف من أين جاءوا ولا يستطيع ان يقدر عددهم ولا يعرف طبيعة تسليحهم الي يحيل الدبابات في ثوان قليلة الي كتل من الصلب المتفحم لقد كانوا يمثلون مشكلة معقدة أمام القيادة الاسرائيلية في هذا القطاع.
وعلي الموقع الخلفي أصيب الملازم أحمد خميس ومجموعته بذهول تام وهم يستمعون الي إذاعة العدو توجه إليهم نداء خاصاً كان النداء يقول: "إلي كتيبة الكوماندوز المصرية علي ساحل سيناء سلموا أنفسكم أو انسحبوا أو استعدوا لإبادتكم لقد رمتكم قيادتكم إلي الهلاك وهم ينعمون الآن بالدفء في بيوتهم إنكم تواجهون الموت دفاعاً عنهم وجيش الدفاع الإسرائيلي لن يرحمكم عندما يوقع بكم فكروا جيدا وقد اعذر من انذر".
وأثار هذا النداء القبيح سخرية الرجال واشمئزازهم بل إنه أرسل بينهم شعوراً جارفاً بالثقة وإحساسا متزايداً بالفخر وقال الملازم أحمد للجنود حوله وهو يضحك:
كأن صوت هذا الأحمق يرتعش وهو في قلب إسرائيل ليته يأتي ليري ماذا يحدث لجيش الدفاع هنا.
وقال الرقيب عبدالمعز:
والله يا أفندم هذا الكلام لو كانوا يدركون لا يزيدنا إلا كراهية لهم إنهم يحاولون التأثير علي معنوياتنا ولكنهم يثبتون بهذا النداء الساذج إنهم أفلسوا في الحرب النفسية كما أُفلسوا في ميدان القتال.
وقال الضابط للجندي الذي يحمل جهاز الراديو:
إبحث لنا عن محطة أخري أو اقفل الراديو.
وعندما أخبر الجندي نوار قائد الداورية بما سمعه من إذاعة إسرائيل ضحك في سعادة ونشوة ولعله قد همس لنفسه "إنني لم أتصور أنني ورجالي سنلاقي كل هذا الاهتمام من العدو ولكن إيمانه بأنه الصباح القادم سيكون مثيراً حافلاً قد زاد يقينا.
وعندما قاربت عقارب الساعة علي الثانية والنصف من صباح اليوم التاسع من أكتوبر وبينما الهدوء يلف جنبات الموقع والرجال قد تمددوا فوق الحفر يتسامرون تقطع السكون أصوات انطلاق قذائف المدفعية وصوت الصفير يشق الهواء في حدة وهو يقترب من الموقع فهب الرجال من رقداتهم وأسرعوا يقفزون داخل حفرهم حين اهتزت الأرض بعنف بالغ اثر ارتطام القذائف وانفجارها وسط الوقع وأثارت تلك المفاجأة حالة من الفزع في قلوبهم وارتفعت أعمدة الغبار تتصاعد ثم تتساقط فوقهم داخل الحفر وعاد الصوت المكتوم يعلن عن انطلاق مجموعات أخري من تلك القذائف اللعينة وبدأ صفيرها يسبق الهواء والافراد يتابعونه بآذانهم ويبتهلون الي الله ان تضل طريقها إليهم ولكنهم فوجئوا بها تقترب كما لو كانت تستهدف كلا منهم وكلما زادت حدة الصفير مع اقتراب القذائف يغض الرجال أعينهم في حركة لا إرادية وينكمشون داخل مواقعهم حتي ترتج الأرض وتهتز تحت عنف الانفجارات.
ان الحفر قد تهايلت أجنابها وشكاير الرمل فوقها قد سقطت فوق رؤوسهم بعد ان مزقتها الشظايا فانسابت الرمال من داخلها لتزيد عناء الرجال ولم يكن هناك بطبيعة الحال من يجرؤ علي رفع رأسه وسط هذا القصف المخيف الذي توالي بلا هوادة كأن العدو قد قرر ان يحرث الأرض ويقلبها ويمحي كل أثر فوقها للحياة.
وعندما جازف قائد الداورية بإلقاء نظرة سريعة علي الموقف في الفاصل الزمني بين اطلاق القذائف كان قلبه ينخلع عندما رأي الغبار الكثيف يغطي الموقع الأول لقد شعر بالخطر إزاء هذا المشهد المخيف إن الموقف علي هذه الصورة يمكن العدو من الاقتراب وأعاده إلي داخل حفرته انطلاق مجموعة أخري من القذائف غير أنها عندما ارتطمت بالأرض لم تحدث الانفجار المتوقع بل تدلت فوق الموقع تغمره بالضوء الأبيض الساطع وتحيل ظلمة الليل في تلك الساعة إلي نهار لقد كانت القذائف هذه المرة مضيئة وأعقبتها قصفة أخري سقطت قريباً من قائد الداورية حتي أنها أسقطت القطع الخشبية التي كان يستخدمها في تقوية الحفرة ولم يستطع عندئذ ان يقاوم رغبته في توجيه نصيحة الي ضابط المدفعية. فصاح بأعلي صوته كأنه يفرج عن غيظ مكتوم في نفسه:
تعلم يا حضرة الضابط كيف تدار نيران المدفعية.
ولم يكن الملازم في حالة تسمح له بتعلم شيء فقد كان القصف يوشك ان يسقط فوق رأسه.
ومضت أطول الدقائق في حياتهم إن لحظات الترقب والانتظار لسماع صوت الانفجارات بعد ذلك الصفير المميت تبعث في النفس رهبة لا يعرفها إلا من عاش التجربة ولا يستطيع أحد مهما أوتي من ملكة الوصف وبلاغة القول ان يصف ذلك الشعور الذي ينتاب الرجال في هذه اللحظات ولعل كل فرد في الموقع كان يتساءل من الذي اصيب؟ إن هذا القصف العنيف لا يمكن ان يؤدي الي لا شيء فقصف المدفعية يختلف تماماً عن قصف الدبابات واستمرت تلك الحالة المخيفة تسيطر علي الموقع قرابة الساعة والنصف ثم عاد الهدوء المميت يلف المكان مرة أخري واتيح للرجال ان يرفعوا رؤوسهم من تلك الحفر التي أوشكت ان تتحول الي مقابر تضم أجسادهم وبدأ الحزن يخيم علي ذلك الموقع لأول مرة حينما اتضح لهم ان ذلك القصف لم يمر بسلام.
وفوجيء يوسف وهو يستعد للخروج من حفرته بالجندي شعبان عبدالملك يسرع نحوه صائحاً:
أسرع يا أفندم إن الملازم إبراهيم قد أصيب في قدمه وهرع قائد السرية نحو الموقع الأول والجميع يراقبونه من داخل حفرهم وعندما وصل الي حيث تجمع بعض الرجال حول الضابط افسحوا له الطريق ليفاجأ بالحقيقة المؤلمة لقد كان الملازم الذي لم تفارق البسمة شفتيه حتي وهو جثة هامدة ينزف بغزارة من كل جزء في جسده.
وأحس ان الانفعال يكاد يطغي علي مشاعر الرجال وجد ان الجميع يرمقونه بنظرات قلقة تحمل معني يدركه جيداً وبينما هو في وقفته هذه بين الجنود وقد أذهلها الموقف جاء أحدهم ليلقي اليهم بصدمة أخري:
لقد استشهد الرقيب عبدالمنصف والجندي أحمد عثمان من نقطة الملاحظة. وقال الرقيب محمد صابر:
الله يرحمهم جميعا لقد أصيبوا وهم يحاولون الخروج من الحفر بعد ان تهدمت فوقهم وجاء الملازم درويش يقول لقائد الداورية وسط هذا الجو المشحون بالأحزان:
لم يبق لدينا سوي أربعة صواريخ لقد تدمرت جميعها واصيب أحد الجنود في ساقه وكانت صدمة أخري لا تقل عن صدمته بفقد بعض رجاله.
وأخذ الجنود يتجمعون حوله وينتظرون منه ان يصدر اليهم ما يجب عليهم ان يفعلوه الآن وأدرك هو ذلك واستطاع بعد جهد ان يتكلم وان كان صوته يوضح مذي التأثير الذي يعاني منه قال لهم:
لقد فقدنا رجالا أعزاء علينا جميعا ولكني اريدكم ان تعرفوا ان من يسقط منا إنما يدفع ثمن نجاحنا هنا وبدأ صوته يتحشرج شيئاً فشيئاً.
إن ضرب المدفعية علي هذا الشكل يستهدف التأثير علينا إنهم يريدون تدميرنا وإضعاف مقاومتنا ولكني الآن مصمم رغم نفاد التعيين والمياه علي البقاء هنا.
ورأي الدموع تترقرق في اعينهم فلم يستطع ان يتمالك نفسه هذه المرة وصرخ فيهم حانقاً وهو يشير نحو دبابات العدو المدمرة:
انظروا الي نتائج قتالكم اتعتقدون انه من الممكن ان يحدث ذلك بلا ثمن إن هؤلاء الرجال استشهدوا هم الثمن الذي دفعناه وتلك هي الحرب.
وقال الرقيب محمد صابر وقد بدا متماسكاً عن بقية زملائه:
والله يا أفندم نحن لا يغيرنا ما حدث لزملائنا إننا نعرف أننا قد نلحق بهم بعد قليل ولكنها العشرة حين يتذكرها الإنسان في لحظات الوداع الأخير ونحن مع سيادتك حتي لو دفنا هنا جميعاً.
واستبد بها الحماس مرة أخري وطغي بينهم شعور جارف علي الصمود أمام محاولات العدو.
وقال قائد الداورية ينهي ذلك الموقف:
إننا سندفن الشهداء ونسرع بنقل الموقع الأمامي الي خلف الموقع الثاني ستكون المجموعة الخلفية هي مقدمة الموقع هيا الي العمل.
ولم تسطع شمس يوم التاسع من أكتوبر حتي كان الرجال قد واروا زملاءهم الثري ووضعوا فوق مقابرهم خوذات من الصلب أهالوا فوقها التراب حتي لا تكون نقطاً إشارية للعدو واتموا أيضا نقل المجموعة الأمامية الي موقع آخر للخلف وبقيت المجموعة الخلفية فوق التبة التي تحتلها لتعمل كمقدمة للموقع الدفاعي الجديد وبين المجموعتين انتقل قائد الداورية ومعه أطقم الهاون 60مم.
وانهمك الجميع في اعمال الحفر وتحسين الموقع بينما قام الرقيب عبدالله حسنين حكمدار جماعة المهندسين بسحب الألغام الي الخلف لتكون تحت السيطرة بالنيران للمجموعة الأمامية وبعد ان انهموا من كل ذلك ظلوا في حفوهم يراقبون ذلك الطريق الصامت في كآبة تلك الرماية الموجهة حوله وبطونهم الخاوية تعوي من شدة الجوع وقد جفت حلوقهم التي لم تترطب بالماء منذ الأمس وفي ذلك الجو الذي يتسم بالصمت القاتل كانوا ينتظرون قدوم العدو وكان قائد الداورية في تقديره يعتقد ان الهجوم المنتظر سوف يبدأ في الصباح ولكن الساعات الأولي للنهر قد مرت ولم يحدث شيء وأخذ يحاول مع الجندي محمد سعيد الاتصال بقائد وحدة المشاة التي يعملون في معارنتها.
وبعد محاولات مستميتة تمكن الجندي بعد ان استخدم نوعاً آخر من الهوائيات من ان يحقق الاتصال وسارع يوسف يبلغ قائد الوحدة بموقفه الجديد. وقال له الرجل:
لقد صدق قائد القطاع علي ارتدادكم سيكون طريق الارتداد عبر الملاحات.
إنني لا أستطيع التحرك قبل حلول الليل إن العدو فيما يبدو يراقبنا ويستعد للهجوم علينا.
عليك ان تتدبر الأمر حسب الموقف أمامك.
هل الموقف يسمح للمدفعية بمعاونتنا؟
سأحاول ان أدبر لك ذلك.
وانتهي الاتصال بين الاثنين وكان كل منهما في حقيقة الأمر يعاني موقفاً بالغ الحرج.
وفي الساعة الثانية والنصف بعد ظهر ذلك اليوم اعطي افراد المراقبة انذاراً بقدوم عربات ودبابات لا يعرفون عددها لكثرتها تثيره ما كانت وكثرة حولها من غبار ثم عاد القصف يدوي مرة أخري وتساقطت القذائف أمام الموقع القديم وحمدوا الله علي انهم استطاعوا إخلاءه بعد ان احالته الانفجارات الي منطقة أشبه بالمحاجر.
وقال قائد الداورية للملازم ريان:
هل تستطيع ان تفعل شيئاً الآن؟
سأحاول يا أفندم.
وأعطي الضابط أمراً لعامل اللاسلكي علي يساره بطلب الموقع وما هي إلا لحظات حتي جاءت قذائف المدفعية من خلفهم وسط دهشة الرجال واغتباطهم لقد كان هذا الموقف يعد تطوراً جديداً لمعركتهم ورغم ان القذائف التي توالت علي المنطقة لم تتساقط فوق العدو إلا ان إحساسهم بوجودها قد رفع كثيراً من معنوياتهم وأعاد إليهم الثقة في سيطرتهم علي الموقف ولكن تلك المعاونة لم تستمر طويلا إذ لم تلبث ان انقطعت وكان هذا آخر عهدهم بها.
واستمرت دبابات العدو وعرباته في التقدم بينما قصف المدفعية والهاونات يشتد علي الموقع الخالي وصاح الملازم أحمد خميس يخاطب قائده:
أفراد العدو ينزلون من العربات يافندم.
احبس نيران الأسلحة ولا تشتبك إلا عندما أعطي الأمر بذلك وكن معي علي وضع الاستعداد.
وهدأت المدفعية قليلاً وبدأت الدبابات بعد ان دخلت في مدي الاشتباك تكثف بالضرب المباشر كمية النيران المنصبة علي الموقع لقد كانت مركبات العدو وافراده يشاهدون بوضوح وهم يتجمعون علي يمين الرملية في الأمام وبدأوا وسط تمهيد الدبابات والهاونات والمدفعية يتقدمون في مجموعات متفرقة تتحرك بالوثبات وتغطي مساحة كبيرة من عرض اللسان الرملي المحصور بين البحر والملاحات لقد كان واضحاً ان المواجهة هذه المرة ستكون بين أفراد العدو علي الأرض وبين الرجال في الحفر.
وقال الجندي حسني إسماعيل للجندي الجيوشي بجواره:
غريبة إنهم يتقدمون علي اقدامهم يبدو اننا سوف نلعب مصارعة اليوم.
فقال زميله:
إنني لم أسمع ان الإسرائيليين يقاتلون بهذه الطريقة ألا يذكرونك بميدان الرماية؟
إن علي القواذف الصاروخية هذه المرة أن تفتح المجال للبنادق والرشاشات وجاءهم صوت الملازم أحمد خفيضا:
يا أخي أنت وهو امنعوا الكلام جهزوا القنابل اليدوية أمامكم واستعد الجنود للمعركة الضارية وأخذ أفراد العدو يتخذون مواقع لهم أمام الموقع القديم إن أحدآً من الرجال لم يكن يتوقع أن يلجأ العدو إلي اقتحام الموقع بهذه الطريقة التقليدية يبدو أنه يخشي التقدم بمدرعاته فلا شك أن لديه من الاشتباكات السابقة درسا لا يسني.
قال الملازم أحمد لقائده:
بعض العربات تتحرك للأمام يا افندم هل نضرب عليها بالصواريخ؟ يا أحمد إهدأ قليلا إن الصواريخ الباقية توجب الحرص والتأكد من الإصابة قبل إطلاقها.
وبدأت العربات التي تقدمت للإمام من اطلاق مدافع الهاون المثبتة فوقها وتساقطت القذائف بين أفراد العدو بين الموقع القديم وانبعثت من انفجارها المكتوم سحب الدخان الرمادية لتقيم ستارة كثيفة حجبت أفراد العدو الذين اندفعوا نحو الموقع علي جانبي الطريق وهم يصرخون ويطلقون الرصاص بغزارة.. وشعر الرجال بالرصاص يمرق فوق رؤوسهم.. ولم يصدق قائد الدورية وهو يتابع الموقف من خلال نظارة الميدان ما يراه لقد أسرع العدو يحتمون بستارة الدخان ويقتحمون الموقع الخالي ويندفعون بين الحفر ويقدفون بداخلها القنابل ويطلقون الرصاص في جنون وصراخهم يملأ آذان الرجال المتربصين بأسلحتهم ينتظرون أمر الاشتباك.
كان قائد الدورية يشعر أن قراره باخلاء الموقع الأمامي من الرجال إنما هو توفيق من الله يستوجب الشكر وأحس في تلك اللحظة بأنه يملك بين يديه فرصة ذهبية للثأر وإحداث خسائر جسيمة في أفراد العدو الذين اكتشفوا أخيرا أنهم يهاجمون موقعا خاليا وأخذوا يتجمعون فوق التبة الأمامية وبدأ بعضهم يتقدم صوب الموقع الأول وتناثر جميعهم وهم يشيرون نحو الملاحات تارة. ونحو البحر تارة أخري. وقال يوسف للجندي محمد بكر عامل الاشارة:
عمر لي الخزن الخالية كلما دفعتها إليك.
فأجاب الجندي الذي كانت أنفاسه من رهبة الموقف تتلاحق بسرعة: حاضر يا فندم.
وبدأ الرجال يستعدون لمعركة ويدركون مخاطرها ولكنهم علي استعداد لخوضها مهما كلفهم ذلك من ثمن إن شيئا في الوجود لا يشغل فكرهم ويستولي علي مجامعهم قدر هذه اللحظة التي يواجهون فيها قوات العدو وجها لوجه إن ذلك من تجارب القتال السابقة مع الجيش الإسرائيلي لا يتكرر كثيرا إنها كما يقول الجندي الحسيني "فرصة العمر".
ولنري الآن كيف دارت معركة دورية الصاعقة علي المحور الساحلي شرق نقطة العدو الحصينة علي هذا المحور.
استمر أفراد العدو يتقدمون وقد تخففوا من الحيطة والحذر ويبدو أنهم اعتقدوا أن الرجال قد انسحبوا وواصلوا الاقتراب حتي صاح أحدهم فجأه وهو يشير لزملائه نحو الموقع الحقيقي ولكن صرخة الملازم أحمد وسط جنوده لم تعط أحدا من أفراد العدو فرصة للتفكير.
فقد ارتفعت رؤوس الرجال فوق الحفر واندفعت الطلقات نحو أفراد العدو الذين سلبتهم المفاجأة القدرة علي التصرف حتي أن بعضهم قد رقد علي الأرض ولم يبد حراكا حتي قلبته دفعة من النيران وظلوا يصرخون في رعب وهلع والجنود الذين تمتلئ قلوبهن بالحقد كمواسير الأسلحة التي تلتهب باندفاع الرصاص قد اشتعلوا حماسة واشتدوا عزيمة واصرارا وهم يشاهدون جنود جيش الدفاع الذين كانوا منذ لحظة يهاجمون موقعا خاليا من الرجال. وهم يتساقطون تحت عنف الطلقات وقذائف الهاون التي أمر قائد الدورية باطلاقها وهي تثير الغبار وتخترق الأجساد فتنبعت صرخات الموت الرهيبة مهيبة.
وفي لحظات قليلة كان يرقد أمام موقع الدورية الأمامي أكثر من ثلاثين فردا من أفراد من العدو ولم ينج من ذلك الشرك الذي نصبه الرجال غير من تمكنوا من الأسراع إلي الحفر التي تمتلئ بها التبة الأمامية ليحتموا بداخلها من ذلك الجحيم الذي انفتح علي مصراعيه ليوقع بهم ومضي بعض الوقت قبل أن يبدأوا في إطلاق النار وعادت قذائف الهاون تتساقط علي موقع الدورية مرة أخري ورغم أن يوسف ورجاله كانوا يدركون تماما أن العدو سوف يستخدم كل ما في جعبته للقضاء عليهم إلا أنهم كانوا قد وطنوا أنفسهم علي ما هو الهول ذاته ولندع أحاديث بعض الرجال توضح لنا ما الذي كان يدور في رؤوسهم وهم يعيشون تلك اللحظة يقول يوسف: "عن نفسي لم أعد اهتم كثيرا أن كنت سأعود أم سأدفن هنا إن الشئ الوحيد الذي كنت افكر فيه هو أن أعطي العدو درسا آخر أصبحت نشوتي الوحيدة أن أراهم يتساقطون إنها لعبة رهيبة ولكني أعرف جيدا أنني لو لم أقتلهم فسيقتلونني لقد اكتشفت حقيقة أخري إن كثيرا من أفراد العدو لا يجيدون القتال قليلون هم الذين يجيدونه واكتشفت أيضا أن بين جوانحنا كراهية للعدو لا حدود لها".
وقول الرقيب عبد المعز: "لقد كنت أشعر بالجوع والعطش قبل أن يبدأ الاشتباك وبعد أن فتحنا النيران عليهم أحسست أنني ممتلئ تماماً لقد قتلنا منهم كثيرا كان الرصاص يفعل بهم ما كنت أشاهده في السينما إن الجندي الحسيني كان ينادي عليهم ببعض الأسماء العبرية وهو يطلق رشاشه وبالطبع لم يكن الرشاش يعطي لأحدهم فرصة ليجيب".
ويقول الجندي الحسيني: "إن بينيوبين العدو ثأر خاص لقد غادرت أسرتي بورسعيد الجميلة بسببهم وليس هناك في حياة الإنسان أقسي من أن يغادر منزله وبلده ليبحث عن حياة أخري لقد كنت أتمني أن تقوم الحرب لتضع نهاية لمتاعبنا وأحلم باليوم وكنت أراه يملأ عيني وأنا أقبض علي الرشاش وأطلق النار لقد شعرت أنه يمنح لي ولأسرتي طريق العودة الذي نعود فيه إلي بورسعيد كنت أتمني أن أعيش حتي يحييء هذا اليوم".
لقد أحسست في لحظة ما إننا قد انتهينا فقد كان كل شئ معنا يوشك علي النفاذ وعندما بدأ القتال الأخير أدركت أن الشئ الذي نحتفظ به لم يتناقص هو اصرارنا علي القتال أعتقد أنني قتلت ببندقيتين ستة أفراد لقد كنت أحلم التنشين عليهم بعد أن سقطوا وأحسست عندئذ انه مازال بوسعنا أن نفعل الكثير إن الإنسان منا يتحول إلي وحش.
والطلقة الأولي ليست دائما سوي بداية لا تلبث أن تنهمر بعدها الطلقات وعندما يموت العدو يشعر الإنسان أنه مازال في العمر بقية.
انتهي الموقف إلي احتلال العدو قاعدة نيران في مواجهة موقع الرجال مستغلاً الحفر الموجودة علي التبة وبدأت بهذا الموقف مرحلة جديدة من مراحل هذه المعركة فقد عادت المدفعية والهاونات تهز أرجاء المكان وبين القصفات. يتبادل الفريقان طلقات الاقتناص أحيانا. وبعض القذائف الصاروخية أحيانا أخري.
وصاح يوسف في رجالة: استخدموا كاسات الإطلاق.
وعلي الفور أخرج الرجال القنابل اليدوية وانتزعوا من فوقها تيلة الأمان قبل أن يضعوها داخل كاسات الإطلاق المركبة فوق فوهات البنادق. لتنطلق بعد ذلك نحو موقع العدو وتكثف الانفجارات التي تحدثها قذائف الهاون والتي يتولي الرقيب أحمد توفيق حكمدار الأطقم إسقاطها فوق رؤوسهم.
لقد بدأت بين الطرفين حرب استنزاف من نوع جديد ورغم أن شيئا في هذه الموقف لا يثير الرغبة في الضحك إلا أن هؤلاء الرجال لم يتخلوا عن عادتهم الساخرة ولم يفقدوا روح المرح التي تميز بها قتالهم.
إن الشئ الذي كان يبعث الاطمئنان في قلب قائد الدورية أن العدو يحارب بامكانيات لا تختلف كثيرا عن إمكانياته هو لقد كان يتصور أنه حينما يكتشفون وجوده سوف يستطيعون بامكانيات الاستطلاع الاليكتروني المتوفرة لديهم. إن يحددوا بدقة حجم قواته وتسليحه وأوضاعه أيضا ولكنهم والحال ليس كذلك يتعرضون لخسائر جسيمة لا شك أنها تدمي قلوبهم الآن بما عرف عنهم من عدم القدرة علي تحمل الخسائر رغم أن إمكانيات القتال المتوفرة لدي كل من القوتين المتحاربتين في هذه المنطقة تعطي العدو ميزة التفوق ولكن هل كان العدو يدرك ذلك؟ إن أحداث القتال قد أظهرت أن المفاجأة التي أحدثتها هذه الدورية بظهورها المفاجئ في عمق العدو وقتالها بشراسة وقوة. قد أصابته بصدمة عنيفة وأفقدته القدرة علي مواجهة الأمر بما تقضي به أصول القتال. فراح يتخبط في قراراته فتارة يرسل بعض دباباته وتارة يلحق معها بعض مشاته الراكبة ثم يستخدم مدفعيته بعيدة المدي في الضرب علي الموقع وها هو أخيرا يحشد أمام مجموعة صغيرة من الرجال إمكانيات ضخمة من الدبابات والعربات والمشاة الميكانيكية تؤازرها المدفعية والهاونات لقد كان العدو حتي يوم التاسع من أكتوبر لا يستطيع أن يعرف علي وجه تحديد حجم هذه القوة التي تقف حائلا بينه وبين موقعه شرق بورفؤاد.
صاح الرقيب عبدالمعطي علي الموقع الاول: إنهم يتحركون يسار الموقع.
ورأي الجنود من خلال بقايا الدخان الذي خفت كثافته بعض أفراد العدو يتحركون فوق التبة الأمامية ليقتربوا من الموقع الأمامي من جهة اليسار وانطلقت النيران غزيرة من الجانبين واستمر تبادلها لفترة قصيرة قبل أن يفاجأ قائد الدورية بصرخة الرقيب عبدالله حسين الذي كان مكلفا هو والجندي محمد مصلح بتأمين الجانب الأيمن وحماية حقل الألغام علي الطريق يطلب النجدة لقد فوجئ الرقيب بثمانية أفراد يندفعون بسرعة وهم يطلقون الرصاص علي جانب الموقع.. وخشي يوسف أن يفلح العدو في اختراق تلك الناحية. فصاح في العريف مصطفي صيحة جمع لها كل ما لديه من قوة: اضرب علي العدو في اليمين يا مصطفي لا تدعهم يخترقون الموقع وعندما رفع العريف رشاشة ليوجهه إلي حيث أمره قائده اصابته رصاصة في ذراعه الأيسر وتأزم الموقف ولكن الرقيب عبدالله والجندي مصلح قد تمكنا من اجبار العدو علي الرقود علي الأرض العراء وتناول الجندي السيد سالم قنبلة دفاعية قذفها وسط الأفراد بقوة وما كادت تنفجر حتي كان العريف مصطفي قد تناول رشاشه بيده اليمني وأخذ يطلق النار علي جنود العدو والدماء تنزف منه بغزارة وهنا صاح الملازم أحمد خميس الذي قدر له أن يقود المجموعة الأمامية في هذا اليوم والذي لم يكن يعرف حين تخرج في الكلية الحربية منذ عام مضي أنه يوم النهاية. أوقفوا الضرب في اليسار أوقفوا يا حسين. وأصابتهم دهشة لهذا النداء إن العدو يتحرك فوق التبة ليهاجم من اليسار فلماذا يوقف الضرب؟
إن الإنسان حين يضغط علي الزناد لا يستطيع أن يعي سوي حقيقة واحدة انه لابد أن يقتل العدو قبل أن يقتله غير أن الملازم أحمد فطن إلي حيلة العدو إن الذي كان يتحرك ناحية اليسار لم يكن جنودا ولكنها خوذات يحركها فردان من خلف التبة بالتناوب بينما يتولي أحدهم إطلاق النار إمعانا في التضليل وكان واضحا أن العدو يهدف من وراء ذلك إلي جذب انتباه الموقع إلي جهة اليسار بينما يندفع أفراده لمهاجمة الموقع من اليمين إنها حيلة قديمة يعرفها الرجال جيدا ولكن حالة الانتباه في الموقع جعلت الإسرائيليين يدفعون ثمنا غاليا وهم يستخدمون تكتيكاتهم المألوفة إنهم لم يدركوا بعد أن هناك أمورا كثيرا تتغير ثم عاد الهدوء ثانية ومازالت الأسلحة مشروعة إنها لحظات أشبه براحة الملاكمين بين الجولات قبل أن يستأنفوا الصراع وتمكن العريف مصطفي من تضميد جرحه الذي خلفته رصاصة في عضده الأيسر وأحس من غزارة الدماء بضعف شديد يكاد يضعف قدرته حتي علي الرؤية الواضحة ثم عاد القصف بالمدفعية عنيفا مرة أخري وسقطت القذائف هذه المرة وسط الموقع ولكن الرجال كانوا يخفضون رؤوسهم داخل الحفر ثم يرفعونها بعد أن يدوي الانفجار وتوالي القصف بتلك الطريقة التي تستثير الأعصاب مدفع يقصف خلف الآخر فتتوالي الانفجارات بفواصل زمنية متقاربة.
وصاح يوسف في الملازم ريان من داخل حفرته: أليس هناك وسيلة لطلب النيران المدفعية يا ريان؟ وأجابه الملازم.
إن لديهم أوامر بتقييد الذخيرة يا فندم.
فاعتملت في نفس الدورية ثورة وقال غاضبا: اسمعهم علي اللاسلكي ماذا يحدث لنا هنا إن قصفة واحدة من مدفعيتنا ستغير الامور.
وكان الملازم متاثرا للغاية من هذا الموقف ولكن ماذا عساه أن يفعل؟ لقد استشهد عامل اللاسلكي وتدمر الجهاز يا أفندم.
إن إحدي القذائف انفجرت يسار حفرة الجندي البائس فمزقته. ودفن في حفرته وقد اختلطت أشلاؤه بحطام جهاز اللاسلكي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.