الخيال السينمائي الذي صاغ شخصية ضابط الشرطة لم يكن بأي حال بعيداً عن طبيعة المناخ السياسي والاجتماعي السائد في وقت إنتاج الفيلم.. في الخمسينيات من القرن الماضي جسدت السينما هذه الشخصية كلية الوجود في حياة أي مجتمع حديث بحنان واحترام وأناقة ملحوظة في المظهر وفي أسلوب الكلام.. تتذكرون شخصية الضابط الذي ظهر في مشهد واحد في فيلم "شارع الحب".. أعني الشرطي الذي يسكن وجدانه فنان متذوق ومتفاعل مع لحن الأغنية التي يغنيها عبدالحليم "نعم يا حبيبي نعم".. والذي جاء لا لكي يقبض علي الفنان الهارب وإنما ليبشره بأن التهمة سقطت بانتهاء المدة ولم يشأ أن يربكه قبل أن ينتهي من قيادة الأوركسترا المصاحبة للأغنية.. ولم يحاول وهو ينصت للأغنية أن يتسبب في أي إزعاج لجمهور الجالسين في المسرح. وكلنا يتذكر أنور وجدي في "ريا وسكينة".. و"قلبي دليلي" الخ الصورة الحلوة التي جسدها هذا الممثل الوسيم.. وصور أخري تناولها زملاء في كتاباتهم عن رجل الشرطة والتي تشكل ألبوماً متنوعاً للشخصية الحاضرة أبداً في الخيال الجمعي السينمائي بصفاته التي تجعله أقرب إما إلي ملاك الرحمة مثل يوسف وهبي في "حياة أو موت" أو الشرير الملعون في "تيتو" و"هي فوضي". وقد ارتبط صعود وهبوط هذه الشخصية الإنسانية طوال تاريخ السينما بمساحات الحرية. ورحابة الأمل بعد ثورة ..1952 بأشكال القمع والاستبداد الطافح علي السطح الذي مارسته أفراد في هذا الجهاز المنوط به خدمة الشعب وحفظ أمن المواطن والوطن إبان السبعينيات وما بعدها. وفي فيلم "الخطايا" جسد زين العشماوي في مشهد واحد صورة لرجل الأمن "الملاك" الشرطي ذو الرسالة صاحب القلب المفعم بمشاعر العطف والروح الكريمة المستعدة للعطاء.. وقد مرت الشخصية مروراً عابراً ولم يلتفت إليها كثيرون رغم أن المخرج حسن الإمام منحها - عن عمد - أبعاداً إنسانية مدهشة ومثالية إنه الضابط الشاب الذي يبدأ حياته كما يتضح من رتبة داخل أحد أقسام الشرطة. يتأمل المتهم "عبدالحليم حافظ" فيكتشف بحدسه الأمني أنه ليس متهماً تقليدياً وأنه حائر حزين يخفي قصة وظروفاً صعبة فيمنحه من وقته ونصائحه ودعمه المعنوي والمادي ما يعيد إليه التوازن فلم يعد هو الشاب "اللقيط" الذي يشعر بالغرق في بحر بلا قرار بعد أن فقد ما كان يظنه أباً أو أماً أو أسرة أو شقيقاً.. في ذلك المشهد الذي لم يستغرق دقائق قليلة كرس صناع الفيلم "الكاتب والمخرج" قيمة مهمة جداً وكانت وقتئذ ضمن القيم الثورية التي كان يروج لها النظام الثوري بعد ثورة يوليه ألا وهي قيمة "العمل". إن الإنسان ليس بأصله ونسبه وإنما بقدرته هو علي تحقيق الذات.. نتذكر شعار "النظام والعمل" ونتذكر فيلم "رد قلبي" الذي كرس هذه القيمة ضمنياً وجعلها السر وراء إذابة الفوارق الطبقية بين بنت "السلطان" وابن "الجنايني" مع إضافة قيم الانتماء والوطنية وتقديم مصلحة الوطن العليا والاجتهاد من أجل تحقيقها. الدور الصغير الذي لعبه الممثل المبتدئ وقتئذ واجتهد أن يترك من خلاله أثراً ما. يكتسب أهميته عبر تجسيده لشخصية ضابط الشرطة. ومع شيوع الفساد وسياسات الانفتاح السداح مداح بدأت الملامح الإيجابية تنقلب وتعبر عن المناخ المميز للمرحلة دخل "الألبوم" صور للضابط العايش في وهم الإحساس بأنه الأهم والحاكم بأمره والقائم علي حراسة أمن الوطن ومن حقه أن يمارس أشكال القمع ويعربد بسياط السلطة الغاشمة دون لجام يكبح غرائزه.. ومع ذلك وبرغم الغيوم لم يكن من الممكن بالنسبة لصناع الأفلام أن يتجاهلوا وجود الوجه الآخر لنفس الشخصية وأن يأتوا بالطيب إلي جوار الطالح حتي لا تكون الأمور "فوضي" فعلاً. في آخر نسخة قدمتها السينما لهذه الشخصية في فيلم "المصلحة" حرصت المخرجة ساندرا أن تقدم أكثر من وجه لرجل الشرطة ولكن الملمح الأهم والمعبر عن روح المرحلة. أن هذا الضابط المخلص "أحمد السقا" يتفق مع المجرم تاجر المخدرات في كون الاثنين لا يحترمان "القانون" ولا يتكئان عليه لتحقيق العدالة مع أن فكرة الانتقام الفردي لا تستقيم مع مجتمع ثوري رفع شعار "العدالة".. ولكن ذكاء المخرجة جعلت الاثنين "المجرم والشرطي" في نهاية الفيلم داخل قفص الاتهام لأن كليهما مذنب.. ومن ثم لم تخرج عن السياق السياسي والمجتمعي للمرحلة التي يعرض فيها الفيلم بعد ثورة 25 يناير. وهناك بالطبع طبعات قادمة تحمل ملامح مغايرة بالتأكيد لرجل الشرطة الذي يستشهد يومياً في هذه المرحلة أثناء صدامه مع قوي الإرهاب التي لم تتوقف عن شن هجماتها!