حفل أوركسترا القاهرة السيمفوني الذي أقيم منذ أيام تحت عنوان "جاز كونسير" كان يجب أن يكون عنوانه "ميلاد قائد جديد" حيث نشاهدة لأول مرة المايسترو الشاب محمد سعد باشا يقود السيمفوني في حفل كامل. الحفل من حفلات الموسم المهمة ليس لأنه فقط قدم لنا قائداً جديداً ولكن لأنه نموذج جيد لاحتضان الشباب وتشجيع المواهب الاكاديمية والتي طالما نادينا به علي هذه الصفحة المتخصصة وتم الآن الاستجابة له والدليل عليه حرص رئيسة الأوبرا د.إيناس عبدالدايم علي الاشتراك في الحفل بعزفها الماهر والمتمكن علي آلة الفلوت وبنجوميتها التي كانت وراء الإقبال الجماهيري وتكمن أهمية الحفل ايضا أن المايسترو باشا لم يقدم نفسه كقائد فقط وإنما إبداعه كمؤلف موسيقي تجلي ايضا في هذا البرنامج الذي يمثل اضافة للرصيد الفني للفريق وللساحة الموسيقية. ومحمد سعد باشا حاصل علي الدكتوراه من الكونسرفتوار وفاز بالعديد من الجوائز في مجال التأليف آخرها جائزة الدولة التشجيعية عام 2012 وله العديد من المؤلفات التي عزفت خارج مصر وداخلها وتم نشر معظمها وفي مجال القيادة أسس اوركسترا الساقية الوتري ويقدم برنامجاً سنوياً متميزاً بقيادته ويقود أحيانا اوركسترا مكتبة الإسكندرية وهو القائد الأساسي لأوركسترا الكونسرفتوار ولكنه كما سردنا كان عصفوراً مغرداً ولكن خارج سرب الأوبرا التي هي من المفروض أن تكون بيته الحقيقي وأول مرة قاد السيمفوني كان الشهر الماضي حيث قاد أحد مؤلفاته الخاصة وتناولنا ذلك علي هذه الصفحة بالنقد والتحاليل.. والمايسترو محمد سعد باشا ليس بعيداً عن موسيقي الجاز موضوع هذا الحفل فهو كان عازفاً لآلة الدرامز وله ثقافة كبيرة وخبرة عملية في مجال هذا النوع من الموسيقي وذلك قبل أن يتعمق في دراسة العلوم الموسيقية الكلاسيكية والمعاصرة والتي تتلمذ فيها علي يد خيرة الاساتذة منهم د.عواطف عبدالكريم ود.راجح داوود والمايسترو أحمد الصعيدي.. وبرنامج الحفل الذي نجح المايسترو محمد في اختياره جاء في 3 فقرات اثنتان منها من مؤلفات الأمريكي جورج جيرشوين "1898 - 1937" الذي يعد أول من أدخل الجاز إلي قاعات الموسيقي الكلاسيكية كما أنه باعتراف النقاد والباحثين مؤسس المدرسة الموسيقية الأمريكية الحديثة حيث استطاع أن يمزج موسيقي الجاز الشعبية الأمريكية بالموسيقي الكلاسيكية الأوروبية ولكن بعمق وموهبة جعلت أعماله دائما ضمن برامج كبري الأوركسترات في جميع بلاد العالم.. . بدأ الحفل بالافتتاحية الكوبية التي كتبها جرشوين عام 1932 بعد أن زار هافانا عاصمة كوبا وهناك تعرف علي الموسيقي والرقص الكوبي الذي كان مصدراً لإلهامه ونسجه داخل موسيقاه ببراعة في الكتابة الأوركسترالية وهذه الافتتاحية عرضت لأول مرة في استاد لويسون بنيويورك وحققت ونجاحاً كبيراً ووصل عدد الحاضرين اكثر من 17 ألف متفرج. العمل الثاني الذي عزفه الأوركستر من مؤلفات جرشوين مقطوعة "أمريكي في باريس" التي كتبها عام 1928 وفيها يقدم انطباعاته كزائر أمريكي لباريس ونراه يستخدم الأوركسترا الكلاسيكي المتعارف عليه ولكنه يضيف إليه بعض الآلات الموسيقية امثال الساكسفون لإضفاء روح الجاز عليه كما استخدم آلات غير موسيقية مثل ابواق سيارات الأجرة للتعبير عن الشارع الباريسي بضجيجه وازدحامه.. والعملان كانا خير اختبار لسعد باشا في مجال القيادة وتفسير فكر المؤلف حيث كانا في صميم موضوع الحفل الذي يعد فكرة جديدة جعلته يبعد عن البرنامج الكلاسيكي التقليدي الذي يقدمه معظم القادة طوال الموسم كما أنهما من الأعمال الصعبة استخدم فيهما جرشوين اساليب مختلفة في التأليف الموسيقي فنجد في المقطوعة الأولي الايقاعات الكوبية السريعة والتي تحتاج مهارة من العازفين ويقظة من القائد. اما العمل الثاني نجده متنوعا بين المدرسة الفرنسية التعبيرية والموسيقي الشعبية الامريكية المتنوعة بين الجاز والبلوز ثم كيف يجمع بينهما.. وهذا كان اختبارا حقيقيا لهذا المايسترو الشاب ولكنه اجتازه بنجاح ليقدم لنا نفسه كقائد جديد له شخصية خاصة به.. صياغة أوركسترالية الجزء الثاني من الحفل الذي يمثل اضافة كبري والذي ظهر فيه محمد كمؤلف موسيقي مالك لأدواته كانت مقطوعة "متتالية للفلوت وثلاثي بيانو الجاز" للمؤلف الفرنسي المعاصر "كلود بولينج" والذي يعد هذا العمل من أشهر أعماله حيث تجلي فيه المزج الناعم بين موسيقي الجاز والموسيقي الكلاسيكية. العمل في 7 حركات لآلة الفلوت والبيانو والباص والإيقاع والعمل من شهرته تمت صياغته لآلات اخري احيانا نجدهم استبدلوا الكونترباص بالجيتار الكهربائي ويتم التنوع في آلات الايقاع ولكن لأول مرة نجد محمد باشا اختار 5 حركات وأعد لهت صياغة اوركسترالية تعد إضافة عالمية متميزة ورائدة لهذا العمل واعتقد أن مؤلف العمل سوف يسعد بها حيث رسخته في قاعات الموسيقي الكلاسيك لأن الباشا حافظ علي العمل كثلاثي وأعد التوزيع الاوركسترالي بعمق وحرفية حافظ فيها علي روح موسيقي الجاز وخصائصها سواء في أسلوبها أو في استعمال الآلات واستطاع بأسلوب علمي أن يجعل الآلات الأربع "الفلوت وبيانو الجاز الثلاثي" تدخل في نسيج الأوركسترا ومجموعاته الآلية ولهذا انصحه أن يكمل بقية حركات العمل الذي تخلي عنها ويسعي لنشر هذا الإعداد عالمياً وأعتقد أنه سوف يكون ضمن برامج الأوركسترات الكبري.. ولكن لا ننكر أن ما ساعد علي نجاح العمل العازفون المتميزون وعلي رأسهم د.إيناس عبدالدايم عازفة الفلوت التي هي الآلة الأساسية في هذه المقطوعة والتي أدت العمل بالمهارة والتكنيك الصعب الذي يتطلبه هذا العمل والذي كان ابدعه المؤلف لعازف الفلوت الشهير جون بير رامبيل والتي يتنوع بين العزف الكلاسيكي والغنائي والعزف النشط التعبيري ايضا تميز عازف البيانو محمد صالح خاصة أن هذا العمل في نسخته الأصلية عزفه مؤلف العمل الذي يعد من أشهر عازفي بيانو الجاز وتفوق ايضا كل من عازف الكونترباص شريف عليان وعازف الدرامز هشام كمال أما باقي الأوركسترا أدوا جميع المقطوعات بشكل طيب يدعو إلي الفخر.. وأخيرا أرجو أن يكون هذا الحفل بداية لجذب المواهب الاكاديمية إلي الأوبرا ليساهموا في نهضة حقيقية لهذا الصرح الثقافي ويساعدوا علي تحقيق أهدافه.