اسمحوا لي أن أحدثكم اليوم عن قامة مصرية عالية في العلم والأدب.. وهو الأستاذ الجليل والباحث الفذ الدكتور مصطفي الشكعة عضو مجمع البحوث الاسلامية وأستاذ النقد الأدبي والدراسات الاسلامية بجامعات مصر والعديد من الجامعات الأخري في أوروبا وأمريكا والعالم العربي والاسلامي. انه أحد الرموز الكبيرة التي تفاخر بها مصر غيرها من الأوطان.. وتفاخر بها أمتنا العربية والاسلامية غيرها من الأمم... وقد تألمت كثيراً عندما جاءني خبر انتقاله إلي جوار ربه مساء أمس الأول بعد حياة حافلة بالعطاء العلمي والمواقف السامية التي تعبر عن قوة الرأي وسلامة الرؤية. دفعتني مشيئة الله عز وجل أن أتعرف إلي الدكتور الشكعة في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي مع اثنين آخرين من أعلام عصرنا هما فضيلة الاستاذ الدكتور زكريا البري وزير الأوقاف الأسبق والاستاذة الدكتورة عائشة عبدالرحمن "بنت الشاطيء".. هكذا دفعة واحدة.. ولفت نظري أن الثلاثة تجمعهم وحدة في الفكر.. وتربطهم أصالة في التبيان العلمي.. وذلك علي الرغم من الاختلافات الواضحة في السمات الشخصية التي تميز كلا منهم.. فالدكتور البري عالم ومحدث وقانوني بليغ يذكرك دائما برجال الأزهر الأوائل وزعمائه.. والدكتور الشكعة أديب دبلوماسي محاضر.. لطيف العبارة ساحر البيان.. والدكتورة "بنت الشاطيء" أستاذة وباحثة وكاتبة موسوعية. ومنذ أواخر الثمانينيات لم تنقطع علاقتي بهؤلاء الاقذاذ فالي مثلهم يكون السعي للنيل من فضل علمهم وأدبهم.. وقد تشرفت بالكتابة عن الدكتور البري والدكتورة بنت الشاطيء عندما انتقل كل منهما إلي جوار ربه.. واليوم أجد من الأمانة ان أكتب لقاريء "المساء" العزيز عن الهرم الثالث.. الاستاذ الدكتور مصطفي الشكعة.. وما أحسب إلا أنهم قد نعموا بأفضل مستقر ومقام في جنة الخلد بمشيئة الله. ولد الدكتور الشكعة في قرية محلة مرحوم مركز طنطا بمحافظة الغربية.. وتخرج في كلية اللغة العربية جامعة القاهرة عام ..1944 وحصل علي الماجستير ثم الدكتوراة عام ..1954 وتدرج في سلك التدريس بالجامعة حتي صار استاذا فعميداً لكلية اللغة العربية جامعة عين شمس.. ثم انتدب للعمل مستشاراً ثقافيا لمصر في واشنطن عام ..1960 وأعير استاذاً للدراسات الأدبية في جامعات لبنان والسودان والامارات.. وشارك في العديد من المؤتمرات العلمية بجامعات أمريكا واسبانيا وألمانيا. وكان رحمه الله فوق كل هذه المواقع العلمية حجة في الدراسات التي تتعلق بالادب والتاريخ والفكر الاسلامي.. ولذلك ظل في نصف القرن الأخير عضوا دائما باللجان العلمية الدائمة لترقية الاساتذة بأقسام اللغة العربية بالجامعات المصرية واللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة بكليات اللغة العربية جامعة الأزهر.. إلي جانب عضويته بالجمعية التاريخية المصرية واتحاد المؤرخين العرب ومجمع البحوث الاسلامية الذي يعد أكبر هيئة علمية بالأزهر.. والمجلس الأعلي للشئون الاسلامية. وللراحل العظيم العديد من المؤلفات العلمية التي تعد مراجع مميزة ووافية في مجالها.. من هذه المؤلفات "فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين" و"بديع الزمان الهمذاني رائد القصة العربية والمقالة الصحفية" و"أبو الطيب المتنبي في مصر والعراق" و"معالم الحضارة الاسلامية" و"الامام الشافعي" و"الامام ابن حنبل" و"مقالات في الدراسات الاسلامية" باللغة الانجليزية و"التربية والتعليم في العالم العربي" بالانجليزية أيضا. لكن يظل كتابه "اسلام بلا مذاهب" هو أهم وأخطر ما ترك الدكتور الشكعة للمكتبة العربية والاسلامية.. فقد استطاع بدأ به البحثي وقدراته الموسوعية ان يجمع في هذا السفر البديع جميع المذاهب الاسلامية التي عرفها تاريخنا القديم والحديث.. ويعرض لها بموضوعية كاملة.. ويفند ما بينها من اتفاق واختلاف.. وصولاً إلي تقريب الفوارق بين هذه المذاهب.. وقد اعتمد في تأليفه علي مئات المراجع العربية والأجنبية.. ولذلك اكتسب هذا الكتاب شهرة واسعة في مصر والعالم.. وطبع أكثر من عشرين طبعة.. وترجم إلي العديد من اللغات الأجنبية. واستناداً إلي هذه المكانة العالية استحق الدكتور الشكعة وسام الجمهورية من الطبقة الرابعة عام 1959 ووسام الجمهورية من الطبقة الثانية عام 1977 وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام .1989 وعلي الرغم من الاناقة الظاهرة التي كان يحرص عليها د. الشكعة في ملبسه وفي عباراته حين يتحدث إلا أن هذه الأناقة كانت تنطوي علي ثائر كبير.. لا يخشي في الحق لومة لائم.. ولا يتهيب من سلطان.. وهناك أمثلة كثيرة علي ذلك في عدد الأربعاء 11 يوليو 2007 نشرت صحيفة "الدستور" حواراً معه باعتباره عضوا في مجمع البحوث الاسلامية الذي يرأسه شيخ الأزهر.. فقال في هذا الحوار كلاماً في غاية الخطورة كان يمثل تهوراً في ذلك الوقت المبكر.. حيث ذكر أن "مصر حاليا ملكية.. ونظام مبارك لا يقوم علي الشوري.. لهذا فهو غير سليم ولا نقبله".. وقال أيضا: "الناس علي دين ملوكهم وملوك العالم العربي والاسلامي لا دين لهم. وفي حوار مع مجلة الاذاعة والتليفزيون نشر في 14 اغسطس 2010 قال: "إن حوار الحضارات الذي نسعي اليه يقابله من الغرب صدام وحرب صليبية دموية".. وقال "مشكلة الازهر أن ثورة 1952 صادرت أوقافه التي كان ينفق منها فتراجع نشاطه واصبح تابعاً للدولة". وفي حوار مع "الأهرام المسائي" نشر ايضا في 14 اغسطس 2010 قال د. الشكعة: "اصلاح الخطاب الديني يبدأ بتأهيل خطباء المساجد من لم يستجب للتطوير يعزل.. وعلي الكنيسة حض القساوسة علي نشر التسامح".. وقال: "الوهابيون اذا انحرفوا عن الوسطية مضللون وخرجوا عن تعاليم الاسلام الحنيف".. وقال: "مثيرو الفتن بين المسلمين والمسيحيين آثمون ومعتدون علي دينهم والاسلام يدعونا إلي التودد إلي أهل الكتاب.. المشكلة ليست في مناهج التربية الدينية ولكن فيمن يدرسونها. رحمك الله رحمة واسعة يا استاذ الاجيال.. وجعل كل كلمة حق نطقت بها نبراسا لك إلي جنة الخلد.