يتأكد كل يوم أن الشدائد والمواقف الصعبة تظهر معادن الرجال. وتكشف بجلاء مدي صلابة هذه المعادن المتمثلة في أصحابها. البعض يتهاوي منذ أول لحظة ويتواري عن المشهد. والأعذار كثيرة. معدن رديء يرتبط بمصالحه الشخصية أو المطامع التي يستهدفها. أو لطبيعة تكوينه في بيئة لا تعرف الثبات علي المبدأ. لكن المعادن الأصيلة تظل ثابتة تنبيء عن مدي الوقوف مع العدل والحق مهما تكن ضراوة المعارك التي يخوضونها أو الظروف تعترض مسيرة حياتهم. وهناك صنف ثان يبادر بالهرب من المشهد منتحلاً أوهي الأعذار فراراً من الموقف الذي يكاد يعصف بالحياة. تلك هي طباع هذا الصنف الثاني حيث يظهر خلاف ما يبطن وهؤلاء هم المنافقون تراهم جميعاً وقلوبهم شتي. يتلونون وفق الظروف كالحرباء تماماً تغير جلدها تحت وطأة أي ظرف!! وقد تجلت هذه المواقف في سورة الأحزاب وذلك حين زحف المشركون من مكة مع من تحالف معهم من اليهود وقدموا نحو المدينةالمنورة. ولمواجهة هؤلاء الأحزاب تم حفر خندق حول المدينة لكي يحول بينها وبين هؤلاء المؤمنين الذين ثبتوا مع النبي صلي الله عليه وسلم "ولما رأي المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ومازادهم إلا إيماناً وتسليماً". أما فريق المنافقين فقد جاء موقفهم متناقضاً مع أهل المعدن النفيس من المؤمنين "وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً. وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مُقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً". تلك هي دائماً الفروق بين أصحاب المعادن الأصيلة والمزيفة. فالصنف الأول وقفوا بجوار الرسول وظلوا صامدين يتحملون المشاق التي خلَّفها زحف الأحزاب "إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا" هذا الزلزال لم يؤثر في هؤلاء الصادقين. ولم يفت في عضدهم. أما الصنف الثاني فأخذوا يرددون "إن بيوتنا عورة ونخشي عليها من السرقة ولكن الله كشفهم وأزاح الستار عن نوايات هؤلاء" .. "قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً". وقد ترتب علي ذلك أن متدح الله موقف الصامدين "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلاً. ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم وكان الله غفوراً رحيماً". الجزاء من جنس العمل. وقد روي البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نري هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه وغيره من الصحابة الذين ثبتوا في هذه الظروف الصعبة.. فقد روي الإمام أحمد عن ثابت قال: قال أنس عمي "أنس بن النضر" رضي الله عنه لم يشهد مع رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم بدر فشق عليه. وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلي الله عليه وسلم غبت عنه. لئن أراني الله تعالي مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلي الله عليه وسلم ليرين الله عز وجل ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها. فشهد مع رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم أحد. فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال له أنس رضي الله عنه يا أبا عمر وأين واها لريح الجنة إني أجده دون أحد قال: فقاتلهم حتي قتل رضي الله عنه قال: فوجد في جسده بضع وثمانين بين ضربة وطعنة ورمية. فقالت أخته: فما عرفت أخي إلا ببنيانه. قال: فنزلت هذه الآية "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً". وعن طلحة رضي الله عنه قال: لما رجع رسول الله صلي الله عليه وسلم صعد المنبر. فحمد الله تعالي وأثني عليه وعزي المسلمين بما أصابهم. وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر. ثم قرأ الاية كلها. فقام إليه رجل من المسلمين فقال: يا رسول الله من هؤلاء؟ فأقبلت وعلي ثوبان أخضران حضرميان فقال: أيها السائل هذا منهم إنه موقف الصدق والوفاء. دائماً.. المسلمون يظهر في وسطهم طابور خامس من هؤلاء المنافقين يثبطون الهمم ويعوقون المسيرة ويرتكبون الجرائم لإحباط المسلمين. كما حدث يوم الأحزاب. وهناك موقف يؤكد مدي صدق أهل المعادن النفيسة يوم أن أمر رسول الله بالخروج لغزو المشركين المعتدين فجاءته مجموعة من أصحابه فيهم عبدالله بن مغغل المزني. فقالوا: يا رسول الله احملنا. فقال لهم: "والله لا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا وهم يبكون. وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملاً. فلما رأي الله حرصهم علي محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم "ولا علي الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون". المواقف يسجلها رب العالمين والفرق واضح بين الصادقين والمنافقين. إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد. وذلك حين يتطلع إلي تلك النماذج التي ضربت أروع الأمثلة في التفاني والصدق في أصعب الظروف. إنهم بحق نماذج مشرفة ويكفي هؤلاء فخراً أن رب العالمين أشاد بمواقفهم. إنهم قدوة للأجيال المتعاقبة علي مدي التاريخ فهل يقتدي بهم أبناء العالم الإسلامي والتخلي عن التخاذل. خاصة في هذه الأيام التي نحن في أشد الحاجة للاقتداء بهذه النماذج في العمل الجاد وصدق النية والعزيمة ابتغاء مرضاة الله. "وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلي عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون".