ما رأيته أمس.. ربما لن يتكرر بنفس الصورة مرة أخري.. طوابير طويلة ممتدة لمسافة كيلو متر أو يزيد.. رجال وشباب وفتيات وعجائز ونساء يحملن أطفالهن أو يصحبنهم للمشاركة.. الكل يقف بالساعات ينتظر دوره تحت لهيب الشمس لكي يدلي بصوته في يوم من أعظم أيام مصر. الذين لهم حق التصويت يبلغ عددهم 45 مليون مواطن.. ويقيني كما شاهدت بنفسي أو من خلال الفضائيات أو علمت من مراسلي الجريدة أن المشاركة سوف تتجاوز ال 35 مليونا بنسبة 80% تقريبًا. *** ورغم انني أدلي بصوتي في كل انتخابات علي مدي 35 عاماً.. أؤكد انها المرة الأولي التي أري فيها هذا المشهد الرائع. في كل مرة.. كنت أدخل لجنة الانتخاب المجاورة لقسم السيدة زينب "موطني الانتخابي" ولا أستغرق فيها سوي 5 دقائق لقلة عدد الناخبين.. أؤدي واجبي الوطني والقانوني والدستوري واخرج. أمس.. كان الوضع مختلفاً.. فقد استغرقت ربع ساعة كاملة وأنا أسير بجوار طابور طويل من السيدات وعندما وصلت إلي بوابة إحدي مدارس المقطم حيث توجد لجنة للاقتراع بعد أن سمح بالادلاء بالصوت في أي لجنة بدأ طابور الرجال وكان أطول كثيراً.. فانصرفت وأخذت أبحث عن لجنة هادئة بعض الشيء حتي عثرت عليها في المعادي.. نعم في المعادي.. فأدليت بصوتي وانصرفت. لكن.. الشيء الذي جعلني طائراً من الفرحة هذا الطوفان الرهيب من المواطنين الذين خرجوا من بيوتهم طواعية تكسوهم الفرحة بالتغيير ويؤمنون بأن اصواتهم أصبح لها قيمة ووزن واحترام. وجوه بشوشة لم نعهدها من قبل تقول انهم لم يعودوا "كمالة عدد" أو مجرد ديكور أو ألواناً لتجميل الواقع.. بل أصحاب حق أصيل في تغييرين: تغيير حدث في زلزال 25 يناير وتغيير قادم. *** الأروع.. أن الواقفين في كل طابور كانوا منتخباً وطنياً متجانساً لا متنافراً.. بينهم المؤيد للتعديلات والمعارض لها. بينهم المسلم والقبطي. بينهم ثقافات متعددة ومهن شتي.. ومع ذلك تجمعهم لغة مشتركة وشعار واحد هو "من أجل مصر". ومصر تستحق فعلاً ذلك.. بعد أن عادت لأصحابها.. وعاد أولادها إلي احضانها.. وشعروا بدفئها بعد غربة طويلة جداً. *** الآن.. وماذا بعد الاستفتاء؟ شباب 25 يناير طالبوا في هذا اليوم بمطلبين رئيسيين: حرية وعدالة اجتماعية كعنوانين أساسيين تندرج تحتهما عناوين فرعية كثيرة. الحرية وهي التي تخص هذا المجال الذي نتحدث عنه تعني أموراً كثيرة مثل حرية الرأي والتعبير. حرية مباشرة الحقوق السياسية كالترشيح والادلاء بالصوت واحترام هذا الصوت مؤيداً كان أو معارضاً. الحرية الشخصية وعدم المساس بها أو الحد منها أو التنصت عليها بشكل غير قانوني. حرية تداول المعلومات.. وغيرها من حقوق الانسان التي كان معظمها مسلوباً. إذا طبقنا بند حرية مباشرة الحقوق السياسية علي الاستفتاء الحالي والذي من المنتظر أن تعلن نتيجته اليوم.. فالمؤكد أن كل مواطن أدلي بصوته في حرية تامة بلا ضغوط أو توجيه أو املاء.. ويقيني أن صوته احترم سواء قال نعم أو لا. وإذا طبقنا بند حرية الرأي والتعبير والذي يلازمه ايضاً حرية الرأي الآخر.. فالواجب علي كل من قال نعم أن يحترم رأي كل من قال لا.. والعكس صحيح.. وبالتالي احترام النتيجة النهائية أياً كانت كرأي للأغلبية ما دام الهدف هو "من أجل مصر". *** يجب أن نعوّد أنفسنا علي احترام رأي الآخر مهما كان واياً كانت نتيجته.. بالضبط مثلما نطالب بأن يحترم الغير رأينا مهما كان واياً كانت نتيجته. الاستفتاء لن يخرج عن إحدي نتيجتين: * الموافقة علي التعديلات الدستورية.. وبالتالي لابد أن يرضي بالنتيجة كل من قال "لا" وان يستعد الجميع "معا" للانتخابات البرلمانية. * رفض التعديلات.. وبالتالي أيضاً لابد أن يرضي بالنتيجة كل من قال "نعم" وان يستعد الجميع "معا" لأحد السيناريوهات التي ستطرح وفي مقدمتها إعداد دستور جديد بالكامل وتحمل الصعاب التي قد تترتب علي ذلك. *** هذه هي الديمقراطية الحقيقية المطبقة في كل الدول التي تتعامل بها وقرأناها في الكتب وشاهدناها أيضا في الافلام السينمائية. غير ذلك ليست ديمقراطية ابدًا.. اطلقوا عليها أي اسم آخر.. لكن لا تقولوا ديمقراطية.. ولكم الخيار.