منذ فجر الدعوة المحمدية التي عم نورها أرض الجزيرة العربية ظهرت لغة تخاطب جديدة لم يعتد عليها العرب في عصر الجاهلية. فقد كان محمد بن عبدالله - صلي الله عليه وسلم - هو سيد الدعاة في بلاغة القول وحسن الخطاب وقوة التحمل والاحتمال.. لم يضق ذرعا بالآخرين. الحكمة والتحاور مع الآخرين باللين.. لا عنف ولا تجاوز "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل علي الله إن الله يحب المتوكلين" "159 آل عمران". لقد قدم رسول الله - صلي الله عليه وسلم - صورة حية في الدعوة إلي الله تؤكد أنه أوتي جوامع الكلم. لم يكن فظا غليظ القلب والقول.. الرحمة تقطر من كل كلمة ينطق بها. يكره من كل قلبه الفاحش من القول. يجذب القلوب بحديثه الشيق وتميز بالسهل الممتنع. إنه فريد في هذا الجانب. اللين وحسن اللفظ وبشاشة الوجه تستلفت الأنظار. فكان أحسن الناس قولا. النور ينبثق من كلماته هديا وحكمة ولغة راقية. العلم والرحمة وحسن القول كانت الطريق لغزو القلوب. ومن كان يحظي بالركون إلي مجلسه يسعد بالكلمة الطيبة. ويتعلم حسن الأدب والرفق بالآخر وكيفية نشر الألفة والمودة بين الناس. وقد كان حرص الرسول علي الدعوة باللين بعيدا عن التشدد أو التطرف. امتدحه الله بقوله: "وإنك لعلي خلق عظيم" وكان - صلي الله عليه وسلم - حسن المعشر.. يقول أنس بن مالك: "خدمت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي لشيء صنعته لم صنعته ولا لشيء تركته لم تركته". لفتات إنسانية وجوانب عظيمة تضع أمام البشرية الأساس السليم في الدعوة لدين الحق والعدل والسماحة. يرفض التشدد والغلظة وحينما عرف أن هناك بعض المنفرين بأساليبهم نهرهم عن ذلك في كل عمل خاصة في الصلاة.. يقول - صلي الله عليه وسلم - "إن منكم منفرين فمن صلي بالناس فليخفف وليتجوز فإن فيهم الضعيف وذا الحاجة". وقد كان - صلي الله عليه وسلم - رءوفا رحيما حتي مع خصومه وحينما جاءه يهودي يبارزه وغلبه رسول الله وفي لحظات ضعف هذا الخصم سأله رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قائلا: ما الذي يمنعك مني الآن؟ قال: إنك لا تقابل السيئة بالسيئة وإنما تقابل السيئة بالحسنة" وهنا تركه رسول الله. وعندما سأل أصدقاء اليهودي لِمَ فعلت هذا مع محمد؟ أجاب أردت أن أتأكد من صفته التي عرفتها عنه في الكتب السماوية. ثم أعلن إسلامه وانضم إلي دعوة الحق. لقد كان أهل مكة رغم عدائهم للرسول الكريم إلا أنهم كانوا يأنسون بالحديث إليه. والاستماع إلي كلماته التي تنبع حنانا ومودة. لم يرد سائلا. ولم يتردد في الوقوف بجانب الضعيف.. ففي أحد الأيام جاء رجل إلي أهل مكة من كبار القوم وطلب منهم أن يخرج من بينهم رجل يستطيع أن يعاونه في استرداد دين له عند أبي جهل فلم يقوَ أي واحد منهم علي القيام بهذه المهمة لكنهم أشاروا سخرية واستهزاء إلي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قائلين للرجل هذا الجالس هناك هو الذي ينصفك. أسرع الرجل إلي الرسول ونقل إليه هذا الرجاء. علي الفور اصطحب الرجل وتوجه معه إلي منزل أبي جهل وهناك طرق الباب. وعندما سأل أبوجهل قائلا: من يطرق الباب؟ قال الرسول: محمد بن عبدالله. في التو واللحظة فتح أبوجهل الباب ثم سأل رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ماذا تريد؟ قال: اقض هذا الرجل دينه. فقال أبوجهل: انتظر يا محمد لا تبرح مكانك حتي أدفع لهذا الرجل دينه. ودخل إلي إحدي الغرف فأحضر الدين وقدمه للرجل الذي ظل يماطله فترة طويلة. وقد تعجب صاحب الدين كيف استجاب أبوجهل بهذه السرعة لمحمد لكنه قبض المال وانصرف شاكرا لرسول الله شجاعته وشهامته وانتصاره للحق. وتوجه إلي القوم في مجلسهم بالكعبة المشرفة وأخبرهم بما جري فأصيبوا بالدهشة وأخذوا يترقبون وصول أبي جهل. وحينما وصل سألوه: ماذا جري يا أبا الحكم لماذا استجبت لمحمد بهذه السرعة. فقال: والله لقد وجدت أن أمامي دابة كبيرة تريد أن تفترسني إذا لم أجب محمدا لطلبه. علي الفور قمت بالسداد دون تردد أو مماطلة. لقد علَّم الرسول البشرية حسن الخلق.. وغرس في نفوسهم أن نشر كلمة الحق يعتمد علي بصيرة الداعية وفطنته في لغة التخاطب مع الآخرين والحكمة في التناول دون بذاءة في القول مع الموعظة الحسنة التي تنفذ إلي قلوب الآخرين. فتنطلق الأنوار والهداية من ألسنتهم تنشر دعوة الحق في كل أرجاء الدنيا. فها هو رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يوفد مصعب بن عمير إلي أهل المدينةالمنورة يعلمهم القرآن الكريم ومبادئ الدين الحنيف وذلك بعد أن التقي بوفودهم في مكةالمكرمة وعقد معهم العهد علي أن يفتدوه بأروحهم وأن يتعاونوا معه وأن يكون مقامه بينهم. أخذ مصعب ينشر نور الإسلام بحكمة وموعظة حسنة كما تعلم من الرسول الكريم - صلي الله عليه وسلم - هدي الله علي يديه زعماء قبيلتي الأوس والخزرج ودخلوا في دين الله. بفضل بصيرة مصعب بن عمير وحكمته وحسن تحاوره. لقد ترك الرسول الكريم تراثا وسيرة عطرة لكن للأسف لم يلتزم البعض بهذا المنهج وكان التشدد والتطرف ونزعات العنف في تحاورهم.. وخطابهم مع الآخرين اتسم بلغة تتنافي مع مبادئ الدين الحنيف والقواعد التي أرسي الرسول الكريم معالمها منذ أربعة عشر قرنا من الزمان. تمسكوا بالقشور وتركوا جوهر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. اكتفوا باللحية والثوب القصير وكأن المظهر دون الجوهر هو الأسلوب المثالي. وقد تسبب هذا التشدد والتطرف في نفور الناس وانتاب كثيراً الفزع والخوف من لغة هؤلاء الذين يتخذون التشدد والتطرف في خطابهم مع الآخرين. ويتعين أن يضعوا نصب أعينهم قول الله تعالي: "ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" وعلي الله قصد السبيل.