تتعدد دروس رواية "رحلة لطيفة" للدكتور بشير الرشيدي، لكن أهمهاأن الرواية: "خريطة إدراكية" للسير في دروب الحياة، والتعامل مع أحداثها وظروفها. وعن "الخريطة الإدراكية" يقول أستاذنا الحبيب الدكتور عبد الوهاب المسيري: "لا يمكن لأي دارس أن يحيط بأبعاد أية ظاهرة إنسانية إلا بالغوص في أكثر مستويات التحليل عمقًا، أي المقولات والصور الإدراكية التي يدرك من خلالها نفسه وواقعه ومن حوله من بشر ومجتمعات وأشياء، وهذه المقولات والصور تشكل خريطة يحملها الإنسان في عقله ويتصور أن عناصرها وعلاقات هذه العناصر بعضها ببعض تشكل الواقع وعناصره، وهذه هي الخريطة الإدراكية، التي تحدد ما يمكن أن يراه الإنسان في هذا الواقع الخام، فهي تستبعد وتهمش بعض التفاصيل فلا يراها، وتؤكد البعض الآخر بحيث يراها مهمة ومركزية". الخريطة الإدراكية –إذا- هي: صورة في ذهن الإنسان يتصور أنها تمثل الواقع، أو تحاكيه. وبشير الرشيدي الروائي يكتب من خلال نموذج إدراكي محدد متعين عنده، وواضح الصورة الذهنية لديه، ينتقي من خلاله بعض الوقائع ويظهرها ويتجاهل البعض الأخر ويحيده تمامًا، ولعل معرفة ذلك هو أحد مفاتيح فهم كيف يتسلسل الأدب الرشيدي من خلال منظومة قيمية وأخلاقية كبرى، ثم يتبدى من خلال أحداث يبلورها الرشيدي في عمل روائي يقول من خلاله ما يريد قوله في مناهج التفكير، وطرائق العيش، وأساليب التعامل مع الأحداث، مستخدمًا نسقا مفاهيمًا في التعبير، ورؤية فلسفية كامنة في إدراك الأحداث وتسلسلها. ومن أهم دروس رحلة بشير الرشيدي اللطيفة أنها تؤكد: أن المعاق ليس هو الإنسان العاجز أو المشلول، بل المعُاق مُعاق الإرادة، والمشلول مشلول النفس، والعاجز عاجز الفكر والتفكير والتدبير، من عوق نفسه بإرادته، وشل نفسه باختياره، واستحل لذاته أن تكون عاجزة عن الفعل مشلولة عن التدبير، وهما من أخصّ خصائص الإنسان، ومسببات تكريمه. وإلا فكم وجدنا وقابلنا في حياتنا أفرادًا أصحاء هم للإعاقة (النفسية) أقرب. ووجدنا من المبتلين ببعض الأمراض العضوية هم للصحة (الجسدية) أقرب. فالإعاقة إعاقة إرادة، وعجز إدارة. والصحة صحة إرادة وقدرة إدارة. والحقيقة أننا نحن بحاجة إلى إعادة بناء مفاهيمنا، إذ أن المفاهيم هي لبنات الأفكار. ومن أهم دروس رحلة بشير الرشيدي اللطيفة: أن الحياة صورة ذهنية، وتوقع هو من حيث المعنى والإدراك واقع يمكن تحقيقه. والحياة رحلة،ومن الحكمة أن نجعلها رحلة لطيفة، ومن لم يجعل رحلته لطيفة فهي بالطبع ستكون على أية حال رحلة، وربما كانت سخيفة ومليئة بالمنغصات بما يجعلها "رحلة كئيبة". والإنسان هو صاحب الرحلة، وقائد سفينتها، وربّانها، وحامل بوصلتها،وموجهها. وأخيرًا: تُعد رواية "رحلة لطيفة" أفضل روايات الدكتور بشير الرشيدي، وذلك لعدة اعتبارات أهمها: أولا: البعد الإنساني، حيث حملت الرواية همًا إنسانيًا عامًا متجاوزا حدود الزمان والمكان، وهي قضية المرض، خاصة لو كان عضالاً ونسبة الشفاء منه ضعيفة، بالإضافة إلى قصة صراع الصور الذهنية وصراع الحضارات عندما عاش بطل الرواية فترة علاجه في أمريكا ودخوله في علاقة خاصة مع امرأة من هذا العالم الغربي بكل ما يحمل من قيم وتصورات ومفاهيم ورؤى كلية عن الإنسان والكون والحياة، والقيم الأخلاقية وحدود المباح والجائز، ودوائر الممنوع والمحرم، واختلافها كليًا عن تصورات إنسان الحضارة العربية الإسلامية. ثانيًا: تمكّن الروائي فيها من أدواته الفنية، فهو فنان بارع، وحكَّاء متميز، يستطيع في كلمات قليلة أن يرسم ملامح شخصياته، ويبرزها كائنات حية من لحم ودم وأعصاب وشحنات عاطفية وتوترات انفعالية، ويغوص في أعماق المشاعر، ويصور الأماكن بريشة رسام متنسك في محراب المكان، تميزٌ في الوصف ككاميرا فوتوغرافيا لا تلتقط فقط المعالم والحدود، بل تغوص في روح المكان وفلسفته. ثالثًا: النَفَس الملحمي الذى كُتبت به الرواية، فأكثر من ستمائة صفحة كانت كفيلة بأن يقول الروائي كل شيء، ويتحكم بتصاعد حبكته الدرامية كما يشاء، ويصل بنا وبالقراء إلى ذروة البناء الدرامي وحبكة الصراع، حيث ظل التوتر في الرواية يتصاعد حتى الصفحة الأخيرة. رابعا: تأكيد رواية "رحلة لطيفة" على الجانب الفلسفي، حيث احتل الفكر الفلسفي جانبًا كبيرًا من فكر بشير الرشيدي. وكان التأمل العميق، والأفكار الكبرى مثل: الحياة والموت، والحرية والإيمان، والوطنية، هي القاسم المشترك في روايات الكاتب، فأنت لا تجد تدافع الأحداث وتصارعها فحسب، بل تصارع الأفكار والتأملات والنظريات، وإن كان هذا لا يمنع وجود الأحداث، ولكن هذه الأحداث توجد كإطار تطبيقي للأفكار الكبرى، وللرؤية في الحياة ولم تكن مقصودة لذاتها. إن الحوار بين ناصر (بطل الرواية) ومارغريت (الأمريكية التي دخلت في علاقة عميقة وخاصة معه) في كثير من مواطن الرواية لم يكن حوارًا بين شخصين أو بين رجل عربي مسلم وامرأة مسيحية غربية (أمريكية) إنما كان حوارًا بين: حضارتين، ومنهجين في الحياة، والنظرة إلى أحداثها وتفاصيلها. كان حوارًا بين: رؤيتين منفصلتين تمام الانفصال للخالق والإنسان والكون والحياة. كان حوارًا بين: تصورين كاملين، يملك كل منهما مرجعية فكرية أو منظومة فكرية كاملة تحدد حدود المباح والحرام والمقبول والممنوع، ونسقا مفاهيميًا متكاملا تحلل من خلاله الأحداث وتفهم من خلاله الكلمات. كان حوارًا بين: عالمين أو بحرين من التصورات والمفاهيم وأساليب الحياة وبينهما برزخ لا يبغيان، كان استمرار العلاقة بينهما باختيار منهج مارغريت هو هزيمة كاملة لمنهج الحياة الذي يحمله (ناصر) وبما يحوي من تصور لإقامة علاقة جنسية كاملة مع امرأة لا تحل له، امرأة متزوجة من إنسان أخر، فالخطايا ضمن هذا التصور الفكري وخيمة العواقب، والإرادة هي مناط التكليف والعقوبة. فمنهج ناصر يقوم على التفكير قبل التدبير، والاختيار بعد معرفة الآثار، أمّا مارغريت فمنهجها يقوم على: دعنا نشرب ونطرب ثم نفكر ونبصر، وشتان بين المنهجين. خامسا: أغلب روايات بشير الرشيدي وخاصة رواية "رحلة لطيفة" لا تنتهي بخاتمتها، إنما يوجد لها جذور أو امتدادات في بقية رواياته الأخرى، وكذلك هناك بعض التقريرات والأحكام الفلسفية، أو حتى الشخصيات نجدها تظهر في أكثر من رواية، كما نجد نفس الأفكار والمفاهيم وطريقة التعامل مع أحداث الحياة. وهو الذي يجعلنا نقرر أن روايات بشير الرشيدي بحاجة إلى أن تُدْرَس دراسة شاملة، تُرصد فيها التقاطعات، ونقاط الالتقاء والاختلاف، والفلسفة الكامنة في كل رواية، والخط المتصل في كل الروايات من الأفكار والرؤى بهدف تقديم دراسة شاملة كلية لهذا الروائي المبدع.