حتى الآن لا نعرف بالضبط من هو صاحب قرار اقتحام نقابة الصحفيين والقبض على اثنين من الزملاء داخلها بالقوة ، فمصادر رئاسة الجمهورية تقول أنها لا تعلم شيئا عن الواقعة وبالتالي لم تأمر بها ، لكن هذا لا يعني أن الداخلية هي صاحبة القرار ، في ظل أوضاع متشابكة ومتداخلة بين الأجهزة الأمنية في البلد وتراتيب القرار بينها ، ولكن في النهاية من قام بعملية انتهاك حرمة النقابة وإهانتها هي قوات تابعة لوزارة الداخلية ، لتسجل بذلك سابقة تاريخية ستصبح لصيقة باسم الرئيس عبد الفتاح السيسي على مدار السنين ، باعتباره أو حاكم مصري يتم في عهده اقتحام نقابة الصحفيين ، رمز الحرية في بلاده ، ويهين العاملين فيها ويلقي القبض عليهم من داخلها ، وهو هجوم لم يحدث في عهد الاحتلال البريطاني لمصر ولا ما تلاه حتى اليوم ، مرورا بكل رؤساء الجمهورية الذين سبقوه رغم وصول الصدام بين الجماعة الصحفية والرئاسة لمستويات بالغة العنف والتوتر وبصورة أكبر بكثير مما هي عليه الآن . لا أريد أن أكرر ما أصبح معروفا الآن ، من أن الواقعة تكشف عن توتر واضطراب أجهزة الدولة مما يوقعها في أخطاء متتالية فادحة واعتباطية ، وأن هذه الواقعة تحدث قبل يومين فقط من ذكرى اليوم العالمي للصحافة ، بما يعني أن هناك في البلد من أراد أن يورط السيسي ويحرجه دوليا ، ولا أن السلوك الأمني كان اهدارا للقانون ونصوصه ، ولكن الذي ينتظره الجميع الآن هو رد فعل رئيس الجمهورية على ما حدث ، لم تكن تعلم بما حدث ، حسنا ، الآن علمت ، والناس تنتظر ما تفعله ، والناس هنا منقسمون إلى فريقين ، فريق متفائل باتخاذ الرئيس قرارا يعيد للصحفيين كرامتهم ويضبط الأداء الأمني بما يحمي سمعة الدولة والنظام ويصحح موقف الدولة من أهم رموزها في مجال الحريات ، ويمحو عار التاريخ أن يلصق باسم السيسي على النحو الذي أشرنا إليه سابقا وفي هذا الإطار تتمسك نقابة الصحفيين بمطلب إقالة وزير الداخلية ، وللأمانة ، فأنا لست من هذا الفريق المتفائل ، وهناك فريق آخر يرى أن المسافة بين منطق القائد العسكري ومنطق الرئيس السياسي لم تنضج بعد في فكر السيسي ، وأن سوء التقدير للموقف السياسي أصبح ملازما لأدائه خلال العام الأخير بصورة منتظمة ومدهشة ، ودائما يختار الاختيار الأسوأ في علاج أي موقف ، كما أن العناد الأزلي الذي هدم نظما قبله ، تسلل إلى نفسيته بسرعة عجيبة ، وأغراه بها تصوره أن بعض معسول الكلام يمكن أن يغسل الموقف أو يخدر الناس وتنتهي الأمور أو يتم ترحيلها ، والمتضرر يخبط رأسه بالحيط . الواقعة بكاملها غريبة ، وفكرة تسليم اثنين من الصحفيين للنيابة بناء على طلبها كانت يسيرة بتفاهم مؤسسي ، بين مكتب النائب العام ونقيب الصحفيين ، كما أن الاتهام نفسه الموجه للزميلين لا يستدعي كل هذه العصبية من الداخلية ، فأنت لست أمام مجموعة إرهابية فجرت جسرا أو قتلت ضباط شرطة ، وإنما صحفيين منسوب إليهم الدعوة للتظاهر ، فهل هذه "التهمة" خطيرة للغاية بحيث تستدعي أن تورط الدولة في أزمة سياسية تكلفتها باهظة على النظام كله ، داخليا وخارجيا ، وفي وقت يتعرض النظام لاتهامات واسعة خارج مصر وداخلها بانتهاكه للحريات وقمعه للصحافة وإهداره للقانون والعدالة ، من الذي من صالحه أن يورط السيسي في هذه "الفاتورة" العالية مجانا ، هذا هو السؤال الذي يحيرني وأعتقد أنه يحير الكثيرين في مصر . على مدار أربع نظم سياسية سابقة ، السادات ومبارك والمجلس العسكري ومرسي ، كان الصدام مع الصحافة والإعلام هو الفصل الأخير في كتاب السلطة ، فعندما يصل الصدام إلى حد استعداء الصحافة وإهدار كرامتها أو تحديها بسطوة الأجهزة وجبروت السلطة يكون النظام السياسي قد آذن بالرحيل ، هذا درس التاريخ ، وأخشى أن تكون واقعة العدوان الأخير على نقابة الصحفيين واستباحتها بهذا الشكل المستهتر قد وصلت بالعلاقة بين السيسي والصحافة إلى مرحلة اللا عودة ، وهذا ما سوف تكشف عنه وقائع الأيام القليلة المقبلة .