قمنا فى المقال السابق بتشخيص الحالة المتردية التى وصل إليها البحث العلمى فى مصر بسبب ثلاثة عقود من التخريب المتعمد لهذا القطاع الحيوى والضرورى لتطور واستقلال الدولة فى كل المجالات ، وفى هذا المقال نسعى لرسم خارطة طريق لإعادة هيكلة قطاع البحث العلمى وتفعيله بحيث يحقق تطوراً ملموساً يمكن قياسه خلال السنوات القادمة. إن البحث العلمى بأهميته الفائقة لابد أن يكون مستقلاً عن النظام السياسى للبلاد ، تماماً كالجيش والقضاء ، لأن مخرجات منظومة البحث العلمى إنما تصب فى صالح الشعب مباشرة ، ولهذا فلابد أن تكون تلك المنظومة تعمل من أجل الشعب ومن أجل نهضة البلاد بصرف النظر عن الأحداث السياسية التى قد تمر بها البلاد وبصرف النظر عن أيديولوجية النظام السياسى الحاكم ، ومنظومات البحث العلمى فى أى دولة متقدمة فى يومنا هذا تنقسم (رأسياً) إلى مستويين : المستوى الأول معنى بوضع السياسات المتعلقة بالبحث العلمى بشكل عام ، وتحديد مجالات البحث الأكثر أهمية والتى يجب أن تكون لها الأولوية العظمى فى التنفيذ والتطبيق ، أما المستوى الثانى فهو معنى بإدارة أنشطة البحث العلمى فى البلاد ، كتقييم المشاريع البحثية ، ورصد الميزانيات لإجرائها ، والعمل على استغلال براءات الاختراع التى تنتج من البحوث ، وما إلى ذلك من الأنشطة الإدارية المتعلقة بالبحوث. فالمستوى الرأسى الأول لمنظومة البحث العلمى هو الذى يجب أن يكون مستقلاً عن النظام السياسى تماماً ، ويجب أن يضم فى عضويته كل أعضاء السلك الجامعى ممن وصل إلى درجة الأستاذية وقام بنشر عدد مناسب (عشرين مثلاً) من البحوث فى دوريات عالمية محكمة ، وقام بالإشراف على عدد من طلبة الماجستير والدكتوراه. هذا المستوى فى منظومة إدارة البحث العلمى يمكن أن يطلق عليه "هيئة الحكماء" وتكون مهمة تلك الهيئة تحديد أولويات البحث العلمى فى البلاد وتقدير الميزانية المطلوبة لكل أنشطة البحث العلمى ، ويجب أن تخضع هذه الهيئة لإشراف البرلمان. أما المستوى الثانى فيجب أن يشمل وزارة البحث العلمى ، والمركز القومى للبحوث ، وعدد من الجامعات الكبرى ، وعدد من شركات قطاع الأعمال العام أيضاً ، ويمكن أن يطلق على ذلك المستوى "المؤسسة القومية للبحث العلمى" ، وتقوم هذه المؤسسة بتلقى أولويات البحث العلمى من هيئة الحكماء ، ثم تفصيل هذه الأولويات إلى تخصصات نظرية وتطبيقية ، وأطروحات بحثية ، تقوم بطرحها على جميع الكليات والمعاهد والمؤسسات البحثية فى البلاد ، حيث يقوم الباحثون بإعداد مشاريع بحثية تفصيلية يقومون بتقديمها للمؤسسة حيث يتم تقييمها ورصد الميزانيات لأفضل المشاريع المقدمة. أما التقسيم الأفقى للبحث العلمى فهو تقسيم يعنى بالتخصصات العلمية المختلفة ، فتكون التخصصات الطبية والصيدلية والعلوم الحيوية كلها تحت مظلة بحثية واحدة ، وتكون التخصصات العلمية النظرية (كالفيزياء والكيمياء والرياضيات مثلاً) تحت مظلة علمية أخرى ، وكذلك العلوم الهندسية ، والعلوم العسكرية ، إلى آخر التخصصات. هذا التقسيم ضرورى للغاية لأن تحديد أولويات البحث العلمى يجب أن يأخذ فى اعتباره تقاطع التخصصات وأهمية أن يضم كل فريق عمل أعضاء من تخصصات متكاملة ، حتى يكون الناتج النهائى جديراً بالتطبيق ، فمثلاً لتصميم وتطوير أول محرك سيارة مصرى ، يجب أن يضم فريق العمل متخصصين فى هندسة المواد ، وتقنيات الاحتراق والوقود ، ومتخصصين فى التحكم والهندسة الكهربائية ، وكذلك الحال عند تطوير دواء جديد من خامات مصرية ، يجب أن يضم فريق العمل كيميائيين وصيادلة وأطباء ، فهذا التقسيم الأفقى حيوى للغاية تماماً كالتقسيم الرأسى المعنى بتخطيط والإدارة. من المهم حتى نتصور آلية عمل المنظومة المقترحة للبحث العلمى أن نضرب مثالاً لعمل هذه الآلية ، فيمكن أعطاء هذا المثال بخطوات محددة كالآتى: 1- يتم تشكيل هيئة الحكماء كما سبق ، وتقوم الهيئة خلال ستة أشهر بتحديد أولويات البحث العلمى لمصر خلال الخمسة أعوام القادمة ، وذلك من خلال اجتماعات ومناقشات مستمرة لأعضاء الهيئة. 2- بعد انتهاء المهلة تقوم هيئة الحكماء بإعلان أولويات البحث العلمى لمصر فى كل المجالات ، والميزانية المطلوبة لتحقيق هذه الأولويات ، من خلال مؤتمر صحفى ويتم نشر بيان رسمى بهذه الأوليات فى الصحف الكبرى. 3- تقوم المؤسسة القومية للبحث العلمى من خلال وزارة البحث العلمى بتخصيص الميزانية العامة للبحث العلمى ، وتقوم بتقسيم هذه الميزانية بين المجالات العلمية المختلفة بحسب توصيات هيئة الحكماء. 4- تعلن المؤسسة القومية للبحث العلمى عن مسابقات لتقديم مشاريع بحثية لتحقيق أولويات البحث العلمى لمصر عن طريق الجامعات والمعاهد والمؤسسات البحثية ، وتكون مدة الإعداد لهذه المسابقة ثلاثة أشهر ، يتقدم بعدها كل الباحثين بمشاريعهم التى تتوافق مع أولويات البحث العلمى. 5- يتم اختيار أفضل المشاريع من خلال لجان تحكيم مكونة من أساتذة جامعيين – كلٌ فى تخصصه – وذلك مع مراعاة ضوابط الحيادية فى التحكيم. 6- يتم تخصيص ميزانية مناسبة لكل بحث – بحسب توصيات مقدمى البحث – ويتم إعلام كل باحث بالمدة المخصصة لإنهاء البحث وموعد تقديم التقرير النهائى ، ويقوم الباحثون بعرض تطورات مشاريعهم كل ستة أشهر على لجنة تقييم من المؤسسة القومية للبحث العلمى. [email protected]