بقلبي احتضنت طوائف توحدت لم تستطع التعايش إلا في قلبي، وفى أحضاني سهرت أعين لتكتب المجد في صناعاتي، وتورمت الأيادي كي يُكتب على كل ما يخرج من جوفي «صنع بأيدٍ حلبية في سوريا»، أنا التي لطالما سكنت في أرجائي كل المجالات، وإذا لُقبت بلقب فأنا أم الحضارات، أنا من أغرقت بجودي وكرمي على التاريخ والثقافات، ويشهد كل ما خرج منى بتكلله بالنجاح. لذا لم أرتحّ يومًا من مشقة الحروب وقفت بجانب أشقائي مصر والعراق وفلسطين، وتكبدت اليوم أكبر خسائري، بعدما تخللني الغادرون، الكارهون، الحاقدون لصمودي، نامت أعين العالم عن سيل الدماء ونزيفي، تحسست ألم شقيقتي «أورشليم» عرفت معنى صراخ أبنائها لأكثر من 40 عامًا، أنا التي أحترق وأحشاء أطفالي تتقطع، ماذا تنتظرون، هل تنظرون أن أكون من سبايا خلافته!؟ أنا «حلب». هز صراخ حلب أرجاء العالم شعبيًا، بعد ليلة دامية قضتها قلوب أهاليها بين الصراخ والأنين والحزن والألم، المدينة التي تعد أكبر المدن السورية والتي كانت عاصمة سوريا التجارية والصناعية، والتي كتبت على جبين العالم وصمة عار لفقدهم الإنسانية، قتل عشرات الأطفال والنساء والشيوخ، ولأول مرة لا يؤذن بالمدينة مؤذن للصلاة، رغم كثرة مآذنها التي تركها لها التاريخ، هُدمت أسقف وتصدعت حضاراتها، كل هذا لم تكترث له طاولة المفاوضات الرباعية، بل وبالعكس يستمر في ريفها عراك تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» وسائر المعارضة، والجيش الذي استعاد المبادرة يواجه من الجو كما الأرض ولم توقف أيدي موسكو وواشنطن أيضًا. لم تضاء لي أنوار برج خليفة ولا أهرامات الجيزة ولا حتى الكويت، ما الفرق بيني وبين فرنسا، أنا الشقيقة المنسية يا عرب، توحد فيها عدة طوائف لا يجتمعون أبدًا إلا في مثيلتها حيث يشكل المسلمون السنة أغلبية فيها، معظمهم عرب مع بعض الأكراد والتركمان، وفيها أيضًا أكبر جالية مسيحية فى سوريا غير أن من بين تلك الجالية الأرمن، فضلاً عن بعض الجاليات الشيعية والعلوية. «حلب» قبل القصف هى كما قالت عن نفسها واحدة من أقدم وأعرق المدن في العالم على الإطلاق، فقد ورد ذكرها في المخطوطات المصرية التي يعود تاريخها إلى القرن العشرين قبل الميلاد، وعثر في قلعة حلب الشهيرة على آثار معبد يعود تاريخه للألفية الثالثة قبل الميلاد، وبدا تأثيرها على العالم سياسيًا واقتصاديًا في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، حيث وصفت بعاصمة لمملكة يمحاض حتى سقوطها على أيدي الحيثيين. وفى العصر الهيليني أصبحت حلب مدينة مهمة ونقطة تجارية رئيسية للتجار المتجهين من البحر المتوسط إلى الأراضي الواقعة إلى الشرق، وتم استيعابها لاحقًا من قبل الإمبراطورية الرومانية، ثم أثرت بوصفها مركزًا للقوافل التجارية تحت الحكم البيزنطي، ولم تستثنى حلب من قبل الفرس أيضًا. ودقت ساعة الفتح الإسلامي لمدينة حلب بقيادة خالد بن الوليد عام 637 ميلادي، لتشكل جزءًا من الدولة الأموية ومن بعدها العباسية، وفى عام 944 غدت عاصمة الدولة الحمدانية تحت حكم سيف الدولة الحمداني، عاشت المدينة عصراً ذهبياً أيام الأمير سيف الدولة وكانت أحد الثغور المهمة للدفاع عن العالم الإسلامي في وجه المد البيزنطي، احتلت المدينة لفترة قصيرة بين عامي 974 و987، أثناء الصراع البيزنطي السلجوقي، تمت محاصرة حلب أيضًا مرتين أثناء الحروب الصليبية عامي 1098 و1124 إلا أن الجيوش الصليبية لم تتمكن من احتلالها لمناعة تحصينها. أما الأزمة الطبيعية التي هزتها حقًا الزلزال المدمر الذي تعرضت له وقضى على كل ما عليها دمرها والمناطق المحيطة، وصُنف على أنه الزلزال الخامس من بين الزلازل التاريخية الأشد دمارًا في العصور القديمة. ولم تتماثل حلب إلا في منتصف القرن الثانى عشر، وفى القرن الثالث عشر وتحت حكم الأيوبيين تمتعت المدينة بعهد من الثراء الكبير والتوسع، إلا أن كُتب عليها ألا تهنأ كثيرًا حيث انتهى فجأة في عام 1260 هذا الرخاء، عندما غزاها المغول، فضلاً عن أنها عانت من وباء الطاعون عام 1348 ومن هجوم مدمر قاده تيمورلنك عام 1400 ميلادية. وفى عام 1516، أصبحت حلب جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، وأصبحت مركزًا لولاية حملت اسمها وبرزت كمركز للنشاط التجاري بين الشرق وأوروبا، ولكن دور حلب كوسيط تجارى انحسر في أواخر القرن الثامن عشر، وانحسر أكثر عندما رسمت بريطانياوفرنسا حدود الدولة السورية الحديثة التي عزلت المدينة عن جنوبي تركيا وشمالي العراق علاوة على خسارة ميناء الإسكندرون لتركيا فى عام 1939. وهنيئًا لها استقلالها من الانتداب الفرنسي عام 1946بعد المعاناة الطويلة، ولكن في الثمانينيات عانت أيضًا ولكن من صراعات داخلية، ولكن لم تمنع كل هذه الأزمات من تطور حلب سريعًا لتصبح مركزًا صناعيًا مهمًا ومنافسًا للعاصمة السورية دمشق وحتى اليوم لحلب أيادٍ فى ازدهار الصناعات السورية. ولكن فور اندلاع ثورات الربيع العربي، كان لسوريا نصيب كبير منها والتي ولمدة خمس سنوات وحتى الأمس لم يهدأ لها بال حتى الأمس تنزف دمًا وتصرخ ولا مجيبٍ لها.