أخي الحبيب سأروي لك قصة نصف ساعة هي أعجب ما مر بي في حياتي، بدأت في الواحدة والنصف ظهر 25 يناير وإنتهت في الثانية ظهراً، خلال تلك الدقائق عرفت معنى جملة (لا حياة مع اليأس)، وفي نهايتها عرفت معنى (لا يأس مع الحياة). دعني أبدأ يوماً قبلها، ففي يوم 24 يناير كنت في نقاش مع عدد من زملاء العمل حول المظاهرات المزمع تنظيمها في اليوم التالي، وكنت قد قرأت بخصوصها عبر الفيس بوك بشكل عابر، لم أكن أنوي المشاركة في هذه المظاهرات لأنني كنت أرى أنني أقوم بواجبي من خلال المقالات التي تنشر في (الوفد) و(المصريون) وأحياناً (الأهرام)، ولم أشارك في مظاهرة في حياتي بإستثناء مظاهرة شاركت فيها أمام البيت الأبيض أثناء تواجدي في أمريكا، لم أشارك يوماً في مظاهرة في مصر، ربما خوفاً من بطش الأمن، أو ربما عن قناعة بغوغائية المظاهرات وما يحدث فيها أحياناً....لكن زملائي حمسوني هذه المرة فقررنا أن نجتمع في ميدان التحرير في الساعة الثانية عشرة والنصف..أمام تمثال عمر مكرم. وفي اليوم التالي 25 يناير وكان إجازة بمناسبة عيد الشرطة ذهبت إلى أحد المحال فأشريت علمين كبيرين وذهبت بالسيارة لمحطة مترو أنفاق وأخذت المترو إلى التحرير، وتعرفت أثناء خروجي على أحد الشبان وصعدنا سوياً إلى الميدان.......ورأيت عجباً. الميدان ممتلئ برجال الشرطة والأمن المركزي، وحركة المرور تسير فيه بإنتظام كامل، ولا وجود لأي متظاهرين أو حتى أشباه متظاهرين بإستثنائنا........كنا نحن – أنا ومن تعرفت عليه – الوحيدين في هذه المنطقة من الميدان تقريباً، وعلى مدد البصر لا شيئء غير السيارات ورجال الأمن المركزي. جاء عميد شرطة وقد رأى الأعلام يسألنا أنا وصاحبي بإبتسامة: إنتم تبع مين ؟!، قلنا له: إحنا تبع مصر، فضحك وأنصرف. وعند الثانية عشر والنصف بدأ أصدقائي في التوافد حتى أصبحنا خمسة، فبدأ المخبرون في التوافد علينا، كما قلت لك كنا الوحيدين في الميدان، ومعنا أعلام، يعني كنا (صيدة)، كنت محبطاً جداً، أين هي هذه المظاهرات التي ستقلد تونس، وأين هم الناس، أين حركة 6 إبريل، وأين كفاية، وأين الشعب الذي يعاني من الفساد وسوء الإدارة وتزوير الإنتخابات !!...بعد فترة صمت قال صاحبي أنه إتصل بأحدهم فأخبره أن المظاهرة ستبدأ من شارع جامعة الدول العربية في الساعة الثانية ظهراً، قلت له: إذاً تعال نركب إلى شارع جامعة الدول، نزلنا إلى المترو وركبنا إلى الدقي ومنها إلى شارع جامعة الدول، وصلنا فإذا نفس المشهد المحبط، الشارع يسير سيره المعتاد، ولا أثر على الإطلاق لأي شيئ غريب أو مرتقب، كانت الساعة الواحدة والنصف، فطلبت من أصدقائي أن ندخل إلى أي كافيه حتى الساعة الثانية بدلاً من وقوفنا هكذا كصيد سهل، دخلنا إلى مقهى (العمدة)، وجلست هناك وأنا في حال لم أشعر بها من قبل، كنت دوماً مفعمًا بالأمل، مهما كانت المشاكل فعندي دوماً تقديرات إيجابية، قد لا تتحقق في النهاية، ولكن دوماً هناك أمل، وبالنسبة لمصر وهي أغلى شيئ كنت دومًا على أمل أن ننهض، وأن يزول هذا العهد، ولم أفقد الأمل أبداً...........إلا في هذه الدقائق. لن يتحرك هذا الشعب أبدًا، قلت لأصدقائي: أنا مضطر أن أعترف، لا أمل، كانت كل الظروف مهيأة للحركة، ثورة تونس وإحساس المصريين بالغيرة، التزوير الفج الذي حدث في إنتخابات مجلس الشعب، الفساد الذي وصل مستويات غير مسبوقة، البؤس الذي اصاب أغلب الناس.....طيب إذا لم يتحرك الناس الآن متي يتحركون ؟!، وها هي الدعوة عبر الإنتر نت كانت دعوة عامة عارمة، ولا يوجد في الشارع أحد على الإطلاق، ولا خمسة متظاهرين، ولا عشرة، فقط نحن، ألم يسمع بهذه الدعوة إلا نحن ؟!، قال لي أحد أصدقائي وإسمه إبراهيم وهو يواسيني: لم نخسر شيئاً، ولنا موعد آخر، قلت له: كيف لم نخسر، بل خسرنا الكثير، الحكومة والمعارضة الكل على علم بأمر هذه الدعوة للمظاهرات، فإذا لم تتم تصبح فرصة ذهبية للحكومة ومنافقيها أن يؤكدوا أكاذيبهم أنهم هم الأغلبية، ......ولم هي أكاذيب ؟، ربما كانوا بالفعل أغلبية !، أليس السكوت علامة الرضا، فما للناس ساكتين، وعلى كل حال سيصورون الأمر الآن على أنه تأكيد على أن المعارضة لا وزن لها، وأن الشعب مع النظام الحاكم، إنها ضربة ساحقة للحركة الوطنية. كنت أشعر بالقهر واليأس كما لم أشعر به من قبل، وفهمت معنى (لا حياة مع اليأس)، أي أن الحياة مع اليأس هي عذاب الموت أهون منه بكثير، كنت أفهم دوماً (لا يأس مع الحياة) أي لا يجب أن ييأس المرء طالما في العمر بقية، لأنه الله بقوته وجلالة قادر على أن يبدل الحال، لكنني لم أكن أدقق في معنى (لا حياة مع اليأس) حتى عشت تلك الدقائق التي كان الموت أفضل منها وأهون، بدأت أحس أن ضغطي يرتفع، وبدأت أطلب المشروب وراء المشروب، شاي بنعناع، بيبسي، شاي مرة أخرى، كنت أحارب الدقائق، بحلول الساعة الثانية طلبت من إبراهيم أن يخرج لإستطلاع الموقف، ذهب قليلاً ثم عاد وقال لي: إن المظاهرة بالخارج !!، كدت لا أصدقه، كيف ؟!، ومن أين أتت ؟!، لم يكن في الشارع أحد على الإطلاق عندما جئنا، أسرعت أحاسب الجارسون وأنا أقفز من الفرح، ثم أخذت الأعلام وخرجت من الكافيه لأرى أعجب مشهد في حياتي، كانت هناك بالفعل مظاهرة تقطع الشارع على بعد حوالي مائة متر، كانوا قرابة خمسمائة متظاهر أو أكثر، وإذا اردت أن تتخيل المشهد مقارنة بنصف ساعة مضت فلن تجد تفسيرًا إلا أن عصا موسى عليه السلام مثلاً قد ضربت الشارع فحولت المشاة إلى ثوار !!، أو أنها الملائكة نزلت من السماء لتنقذ هذا الشعب، تحركنا إليهم ونحن غير مصدقين وذبنا فيهم نردد ما يرددون: - الشعب يريد إسقاط النظام. - يسقط يسقط حسني مبارك. - قول يا محمد قول ليونس...بكره مصر تحصل تونس. - يا حرية فينك فينك...حسني مبارك بيننا وبينك. ثم نداءات يوجهونها وهم يشيرون إلى المئات الذين يطلون عليهم من البلكونات: - يا أهلينا إنضموا لينا. - واحد إتنين...الشعب المصري فين. - علي وعلي وعلي الصوت...إللي حيهتف مش حيموت. كانت أسعد لحظات في حياتي، وأنطلقنا من شارع جامعة الدول العربية نحو التحرير (مشوار تمام، 6.5 كم، حسبتها بالجوجل عندما عدت، أي حوالي 16 لفة تراك)، مررنا بمسجد مصطفى محمود ثم شارع البطل أحمد عبد العزيز ثم عند الدقي إنعطفنا يساراً مع شارع التحرير إلى الكوبري ثم الأوبرا ثم كوبري قصر النيل ثم إلى ميدان التحرير، حاولوا وقفنا سبع مرات طوال الطريق بكردونات كثيفة من الأمن المركزي وأخترقناها جميعاً، في إحدى المرات كاد أحد الجنود أن يهوي علي بعصاه الغليظة لكنه في اللحظة الأخيرة لم يفعل، وفي النهاية وصلنا إلى التحرير ونحن قرابة عشرة آلاف، نفس المكان الذي غادرته قبل ثلاث ساعات ولم يكن به أحد الآن يعج بعشرات الآلاف عبر عدة مظاهرات إلتقت جميعها هناك، لقد كانت مصر هناك يا صديقي، ولدت من جديد هناك، وكأني رأيتك هناك، عندما كنا نسير في شارع البطل أحمد عبد العزيز رأيت شابًا كان أمامي فما أراه إلا من الخلف، كان يشبهك تماماً، لا أعلم أهو شدة الشبه أم هو التمني أم هي الملائكة، لكنني شعرت أنك معنا هناك. لقد كان ربي رحيماً بي يا صديقي فلم يتركني في تيه اليأس إلا نصف ساعة، عرفت فيها أنه لا حياة مع اليأس، وإني لأعجب لمن يعيشون يائسين كيف يعيشون !!، وأي حياة يحيون !!، الحمد لله أن أخرجني منها إلى (لا يأس مع الحياة). كل ما أرجوه منك ألا تضيق ذرعاً بحقيقة أنني لن أفقد الأمل أبداً، أولاً: لأن الله قادر على كل شئ، وبالتالي لا يأس مع الحياة، وثانيا: لأنني جربت مرارة اليأس لنصف ساعة، ولا أستطيع أن أخوض تجربة اليأس مرة أخرى، لأنه لا حياة مع اليأس. مع حبي وتحياتي يحيى حسن