خريطة الأسعار: ارتفاع الأرز والسكر والبيض وقفزة الذهب    ڤودافون مصر توقع اتفاقية تعاون مع الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات لدعم الأمن السيبراني    بروتوكول تعاون بين جامعة الفيوم والاتحاد العربى لحماية الحياة البرية والبحرية    مفوض أوروبي يدافع عن المساعدة في البحث عن مروحية الرئيس الإيراني المنكوبة    الكاف يدين سلوك جماهير الزمالك في نهائي كأس الكونفدرالية.. ويلوح بالعقوبات    الإعدام لقاتل طفلين والتخلص منهما بمساعدة نجله في الشرقية    تفاصيل عيد الأضحى 2024 ومناسك الحج: الموعد والإجازات    الإعدام لأب والحبس مع الشغل لنجله بتهمة قتل طفلين في الشرقية    حجز استئناف أحمد عز على إلزامه بدفع 23 ألف جنيه إسترليني لتوأم زينة    "إطلالة أنيقة".. هيفاء وهبي تخطف الأنظار بأحدث ظهور لها والجمهور يعلق (صور)    الوفد الروسي بجامعة أسيوط يزور معهد جنوب مصر للأورام لدعم أطفال السرطان    "النواب" يوافق على منحة لقومي حقوق الإنسان ب 1.2 مليون جنيه    إسبانيا تستدعي السفير الأرجنتيني في مدريد    افتتاح دورة إعداد الدعاة والقيادات الدينية لتناول القضايا السكانية والصحية بمطروح    الليجا الإسبانية: مباريات الجولة الأخيرة لن تقام في توقيت واحد    استبدال إيدرسون في قائمة البرازيل لكوبا أمريكا 2024.. وإضافة 3 لاعبين    مدرب الزمالك يغادر إلى إنجلترا بعد التتويج بالكونفيدرالية    مصطفي محمد ينتظر عقوبة قوية من الاتحاد الفرنسي الفترة المقبلة| اعرف السبب    وزير الري: 1695 كارثة طبيعية بأفريقيا نتج عنها وفاة 732 ألف إنسان    البنك الأهلي المصري يتلقى 2.6 مليار دولار من مؤسسات دولية لتمويل الاستدامة    المؤشر الرئيسي للبورصة يتراجع مع نهاية تعاملات اليوم الاثنين    محافظ كفرالشيخ يعلن بدء العمل في إنشاء الحملة الميكانيكية الجديدة بدسوق    تأجيل محاكمة رجل أعمال لاتهامه بالشروع في قتل طليقته ونجله في التجمع الخامس    العثور على طفل حديث الولادة بالعاشر من رمضان    تأجيل محاكمة طبيب بتهمة تحويل عيادته إلى وكر لعمليات الإجهاض بالجيزة (صور)    سوزوكي تسجل هذه القيمة.. أسعار السيارات الجديدة 2024 في مصر    الحياة على كوكب المريخ، ندوة علمية في مكتبة المستقبل غدا    ل برج الجوزاء والميزان والعقرب.. أكثرهم تعاسة وسوء حظ 2024 بحسب التوقعات الفلكية    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    العمل: ندوة للتوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية ودور الوزارة فى مواجهتها بسوهاج    «صحة الشرقية» تناقش الإجراءات النهائية لاعتماد مستشفى الصدر ضمن منظومة التأمين الصحي الشامل    الدايت أسهل في الصيف- إليك السبب    «السرب» الأول في قائمة إيرادات الأفلام.. حقق 622 ألف جنيه خلال 24 ساعة    مسرح التجوال يقدم عرض «السمسمية» في العريش والوادي الجديد    نائب جامعة أسيوط التكنولوجية يستعرض برامج الجامعة أمام تعليم النواب    شيخ الأزهر يستقبل سفير بوروندي بالقاهرة لبحث سبل تعزيز الدعم العلمي والدعوي لأبناء بوروندي    ورشة عمل عن مبادئ الإسعافات الأولية ب"طب الفيوم"    بروتوكول تعاون بين التأمين الصحي الشامل وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لتطوير البحث العلمي فى اقتصادات الصحة    32 صورة فاتنة.. الطبيعة تقدم أضخم استعراض لأزياء الطيور    فتح باب التقدم لبرنامج "لوريال - اليونسكو "من أجل المرأة فى العلم"    شكرى: الاحتياجات ‬الإنسانية ‬للأشقاء ‬الفلسطينيين ‬فى غزة ‬على رأس أولويات مصر    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    توجيه هام من الخارجية بعد الاعتداء على الطلاب المصريين في قيرغيزستان    وزيرة الهجرة: نتابع تطورات أوضاع الطلاب المصريين فى قرغيزستان    في طلب إحاطة.. برلماني يحذر من تكرار أزمة نقل الطلاب بين المدارس    تفاصيل أغنية نادرة عرضت بعد رحيل سمير غانم    رئيس جامعة بنها يشهد ختام فعاليات مسابقة "الحلول الابتكارية"    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    مرعي: الزمالك لا يحصل على حقه إعلاميا.. والمثلوثي من أفضل المحترفين    ماذا يتناول مرضى ضغط الدم المرتفع من أطعمة خلال الموجة الحارة؟    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    الأسد: عملنا مع الرئيس الإيراني الراحل لتبقى العلاقات السورية والإيرانية مزدهرة    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    روقا: وصولنا لنهائي أي بطولة يعني ضرورة.. وسأعود للمشاركة قريبا    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    وسائل إعلام رسمية: مروحية تقل الرئيس الإيراني تهبط إضطراريا عقب تعرضها لحادث غربي البلاد    إعلام إيراني: فرق الإنقاذ تقترب من الوصول إلى موقع تحطم طائرة الرئيس الإيراني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حب الوطن.. ثنائية الإنسان والمكان
نشر في المصريون يوم 26 - 01 - 2016


غريزة فطرية أم قيمة أخلاقية؟
ارتباط الكائن الحي بالأرض التي يحيا عليها، والبيت الذي يسكن فيه، ليس مجرد أمر وجداني، أو حالة عاطفية طارئة يمكن التغلب عليها، أو مقاومتها، وإنما هو أمر فطري أودعه الخالق -سبحانه وتعالى- في الكائنات الحيَّة حتى من غير الإنسان الذي تجلَّى فيه جانب الوجدان؛ فبعض الأسماك في قاع البحار والمحيطات تسافر مئات الأميال لغرض (بيولوجي)، ثم تعود إلى موطنها الأصلي، وبعض الطيور تهاجر أيضًا لمئات الأميال من موطنها إلى بلاد بعيدة، ثم تعود من حيث أتت إلى موطنها الأول، بل إلى أعشاشها (منازلها) ذاتها لا تخطئها ولا تتعداها.. وإذا كان هذا هو شأن تلك المخلوقات التي توصف غالبًا بضعف الذاكرة إذا قيست بالإنسان؛ فما بالنا بالإنسان الذي يحمل ذكريات مع تفاصيل المكان الذي يحيا فيه، ويرتبط به وجدانيًّا..؟! حتى إذا بعد عن عَيْنِه تلفَّت قلبُه إليه:
وَتَلَفَّتَتْ عَيْنِي فَمُذْ بَعُدَتْ عَنِّي الطُّلُولُ تَلَفَّتَ القَلْبُ
إن الإنسان الحرَّ بسجيته النقية، وفطرته الأبيَّة، يَحنُّ إلى وطنه كما تحن الإبل إلى أوطانها، والطيور إلى أوكارها، ومحبة الأوطان دليل على الشهامة والنُبْل والوفاء. والارتباط بأرض الوطن هو ارتباط الفرع بالأصل، والبعض بالكل، وصدق الله العظيم إذ يقول: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (سورة طه 55) وفي كتب التفاسير (منها) أي من الأرض لا من غيرها (خلقناكم) بخلق آدم -عليه السلام- منها، أو خلقناكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض؛ فكل إنسان هو جزء من أمه وأبيه اللَّذَيْن تكوَّنَا من الأغذية النابتة من الأرض، حتى لو كان ذلك الغذاء متضمَّنًا مصدرًا حيوانيًّا؛ فقد تغذَّى ذلك المصدر على نبات تلك الأرض، وفي النهاية نحن من تلك الأرض التي نعيش عليها، ونرتبط بها ارتباط الابن بأُمّه؛ ولذلك ذهب البعض إلى أن مكوث الإنسان في أرض مدة من الزمان يأكل من نبتها فإنه يصير من أهلها؛ يقول ابن المبارك: (إن من أقام في مدينةٍ أربع سنين فهو من أهلها).
وقد ثبت في صحيح الإمام البخاري عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول للمريض: (بسمِ اللهِ، تُربَةُ أرضِنا، بِريقَةِ بعضِنا، يَشفَى سَقيمُنا، بإذنِ ربِّنا).. فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يرقي مريضًا بلَّ أُصبعه بريقه، ثم وضعه على التراب، ثم مسح به المريض، وذكر ما ورد في الحديث.
والإنسان يمرض إذا فارق وطنه كما مرض الصحابة -رضي الله عنهم- عندما فارقوا مكة إلى المدينة. وهذا أمر معروف ومشهور.
وقد ذكر ابن حجر في الفتح -ما قد يراه البعض غريبًا اليوم- أن لتراب الوطن تأثيرًا على حفظ المزاج وصحة الإنسان؛ فكان المسافر يستصحب معه تراب وطنه، إن عجز عن أن يستصحب ماءه، حتى إذا ورد غير الماء الذي تعوَّدَ أن يشربه، جعل شيئًا من تراب وطنه في سقايته، ويشرب من أعلاها، ليحفظ عنه مضرة الماء الغريب.
فمحبة الأوطان، والانتماء للبلدان، أمرٌ في غريزة الإنسان، وطبيعة طبع الله عليها نفوس البشر، وعندما يولد إنسان في أرض، فيشرب من مائها، ويتنفس من هوائها، ويحيا بين مروجها، ويصاحب أهلها فإنه يرتبط حتما بها، فيشملها بحبه، وتقر محبتها في قلبه. وقد ذكر أبو نعيم في حلية الأولياء أن إبراهيم بن أدهم قال: (ما قاسيت فيما تركت شيئا أشد عليَّ من مفارقة الأوطان).
ولذلك يقول الإمام الغزالي - رحمه الله: (والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص).
الدين أوَّلًا.. ثم لا شيء يعدل الوطن:
وقد عبَّر أمير الشعراء أحمد شوقي عن هذا المعنى الذي ذكره الغزالي عن حب الوطن ولو كان قفرا مستوحشًا في قصيدة بديعة، صوَّر فيها عصفورتين في الحجاز مَرَّ عليهما ريح جاء من اليمن، وعرض عليهما أن يحملهما إلى هناك حيث الماء كاللبن والحَبُّ كالسُّكّر، فكان رد إحدى العصفورتين مفاجئًا له؛ يقول أحمد شوقي:
عُصْفُورَتَانِ فِي الحِجَازِ حَلَّتَا عَلَى فَنَنْ
فِي خَامِلٍ مِنَ الرِّيَاضِ لَا نَدٍ وَلَا حَسَنْ
بَيْنَا هُمَا تَنْتَجِيَانِ سَحَرًا عَلَى الغُصُنْ
مَرَّ عَلَى أيْكِهِمَا ** رِيحٌ سَرَى مِنَ اليَمَنْ
حَيَّا وَقَالَ دُرَّتَانِ فِي وِعَاءٍ مُمْتَهَنْ
لَقَدْ رَأَيْتُ حَوْلَ صَنْعَاءَ وَفِي ظِلِّ عَدَنْ
خَمَائِلاً كَأنَّهَا ** بَقِيَّةٌ مِنْ ذِي يَزَنْ
الحَبُّ فِيهَا سُكَّرٌ ** وَالمَاءُ شَهْدٌ وَلَبَنْ
لَمْ يَرَهَا الطَّيْرُ وَلَمْ يَسْمَعْ بِهَا إلَّا افْتَتَنْ
هَيَّا أرْكَبَا فَنَأتِهَا ** فِي سَاعَةٍ مِنَ الزَّمَنْ
قَالَتْ لَهُ إحْدَاهُمَا ** وَالطَّيْرُ مِنْهُنَّ الفَطِنْ
يَا رِيحُ أنْتَ ابْنُ السَّبِيلِ مَا عَرَفْتَ مَا السَّكَنْ
هَبْ جَنَّةَ الخُلْدِ اليَمَنْ ** لَا شَيْءَ يَعْدِلُ الوَطَنْ
نعم.. لا شيء يعدل الوطن.. كما لا سيِّدة تعدل مكانة الأم، ولا رجلَ يعدل مكانة الأب؛ ولعلَّ البعض يتساءل: أليس أهم شيء لدى الإنسان هو معتقده؛ أي دينه..؟ فهل يكون الوطن مقدَّمًا على الدين..؟ وهذا تساؤل إن بدَا مبرَّرًا، فإنَّهُ بشيء من التدبر يتضح أنه غير منطقي؛ كمن يتساءل هل الهواء أهم للإنسان أم الأرض التي يمشي عليها..؟! إن الدين كالهواء الذي نتنفسه، ودونه نصير مواتًا. أمَّا الوطن فهو كالأرض التي نحيا عليها، بل هو الأرض ذاتها، والديار التي نسكنها، والتراب الذي نلمسه، وكل ما يحتويه من شجر وغيره. وما مر عليه من تاريخ وأحداث كوَّنت ثقافة محددة.. كل ذلك هو الوطن.
نحن نحيا بالدين كما نحيا بالهواء. ونحيا على الأرض وليس بها. وربما دار المتسائل من جهة أخرى؛ فقال: إذا خُيِّر الإنسان بين أن يترك وطنه أو أن يترك دينه؛ فبمَ يُضَحِّي؟!
وهنا ينبغي جلاء الإجابة حتى لا تترك لعابث طريقًا، أو لشيطان سبيلًا، فالإنسانُ يفرُّ بدينِهَ ولا يفرُّ منه. وقد يفرُّ من وطنه ولا يفرُّ بِهِ، وإن ظل قلبه معلَّقًا فيهِ وفيًّا له. الدينُ جزء من الإنسان.. بل هو كل الإنسان (قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالِمَينَ)، والإنسان جزء من الوطن. فلا تخيير بين هذا وذاك. التخيير مُضِلّ، والقياس مُخِلّ، والدين يعلو ولا يُعلَى عليه، دون انتقاص من الوطن، فإن وطنًا بلا دين لا خير فيه. وإن دينًا بلا وطن يظل مستضعفًا وغير مُمَكَّنٍ له، بل مطاردًا من أعاديه.
والمسلم يحب وطنه لينصر دينَه، ويتعلق بوطنه وفاءً وحبًّا مهما اضطرته الظروف، وهو في ذلك يتأسى بنبيه -صلى الله عليه وسلم- فقد هاجر بدينه وهو محبٌّ لبلده ووطنه مكة وإن آذاه أهلها، فإن حجارتها كانت تلقي عليه السلام، ففي صحيح مسلم عن جابر بن أبي سمرة قال صلى الله عليه وسلم: (إنِّي لأعرفُ حجرًا بمكَّةَ كان يسلِّمُ عليَّ قبل أنْ أُبعثَ . إنِّي لأعرفهُ الآن).
الدين يرفع من شأن الوطن:
لقد حفظ الإسلام للوطن قَدْرَه وللديار مكانتها، والديار ما هي إلا موضع في الوطن، فجعل التغريب عنه وعنها عقوبة وتعذيرًا؛ والشواهد على ذلك كثيرة منها تغريب الزاني البكر مع عقوبته عامًا يعيش منفيًّا محرومًا من وطنه، وقد عاقب الله –تعالى- بني إسرائيل بأن جعلهم يتيهون في الأرض أربعين عامًا دون وطن يضمهم ويطمئنون في كنفه؛ قال تعالى: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (سورة المائدة 26). وتأمَّل كيفَ عَطَفَ الله -تعالى- النَّفْيَ من الأوطان على التقتيل والتصليب، في سياق الآية الكريمة: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أو يُصَلَّبُواْ أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أو يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ) (سورة المائدة 33). قال بعض العلماء تعليقًا على هذا الحكم: يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلانًا وذلًّا. وقد ذكر الحافظ الذهبي طائفةً من محبوبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم فقال: (كان يحبُّ عائشةَ، ويحبُّ أَبَاهَا، ويحبُّ أسامةَ، ويحب سبطَيْه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أُحُدٍ، ويحب وطنه).
وقد استخدم الكافرون عبر الزمان الحرمان من الوطن والطرد منه وسيلة لحربهم الأنبياء والمرسلين؛ قال تعالى: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (سورة النمل 56). وقال –سبحانه- عن قوم شعيب: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ استكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) (سورة الأعراف 88). وقد أجمع الفقهاء على وجوب الدفاع عن الوطن المسلم إذا هاجمه الكفار، ولا خلاف في ذلك بينهم؛ قال الله –تعالى- عن بني إسرائيل: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا) (سورة البقرة 264). وقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) (الممتحنة 8).
ثنائية الإنسان والمكان:
عندما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة رسخ مفهوم الوطن الذي يضم الديانات المختلفة للمرة الأولى في التاريخ من خلال وثيقة المدينة، إذ نظَّمَت تلك الوثيقة علاقة الجميع مسلمين وغير مسلمين بالمدينة وطنًا ومحل إقامة، يضم المسلمين وغيرهم من اليهود، ومما جاء فيها: (إن يهود بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم‏. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة‏. وإن بينهم النُّصح والنصيحة، والبرَّ دون الإثم‏. وإنه لا يأثم امرؤٌ بحليفه‏. وإن النصر للمظلوم‏. وإن اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين‏. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة‏. وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم‏. وإنه لا تُجَارُ قريشٌ ولا مَنْ نَصَرَهَا‏. وإن بينهم النصر على من دهم يثرب‏‏‏.‏ على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلَهُمْ‏‏).
فما الرابطة التي جمعت المسلمين واليهود تحت هذه المبادئ الواحدة التي يلتزم بها الجميع..؟ إنها رابطة الوطن الواحد الذي ينبغي على الجميع الدفاع عنه وإن اختلفت عقائدهم. إنه ارتباط الإنسان بالمكان، ولم يتجاهل الدين الإسلامي تلك الثنائية بل عمل على ترسيخها. وتُعَدُّ وثيقة المدينة أوَّلَ دستور لكيان سياسي تبلور من خلاله مفهوم الوطن الجامع للعقائد المختلفة.
إن العلاقة بين المواطن والوطن؛ بين الإنسان والمكان هي علاقة حميمة متناغمة، تضرب بجذورها في الوِجدان والنفس؛ فالإنسان والمكان كلاهما يحتاج إلى الآخر؛ الإنسان في حاجة إلى مكان يحتويه، يتخذه وطنًا، ويحرص على أن يكون ذلك الوطن قويًّا يقدم له الحماية، ويحفظ له حقوقه كافة. والمكان بحاجة إلى الإنسان (المواطن) ليدافع عنه ويحميه ممن يريده بسوء، وتلك العلاقة بين الإنسان والمكان إذا أُحْسِنَ فهمُهَا وتنميتُها وتأكيدُها اتَّخَذَتْ مسارًا قويمًا، يجعل الإنسان مهمَا كانت توجُّهاته الفكرية مستعدًّا بالفطرة للدفاع عن وطنه.
وإذا كان حبُّ الوطن من العواطف الجياشة التي قد تغلب النفس، وتُغَيِّبُ العقل، مثل جميع العواطف المتغلِّبة، فإن الدين الإسلامي قد جاء ضابطًا للعواطف جميعها؛ محددًا مسارها وتوجيهها؛ فلا يصيبها غُلُوٌّ خطير، ولا يلحقها خذلان أو تقصير.
إن الانتماء عامة، والقدرة عليه، والوفاء بما يتطلبه من إيثار وتضحيات، لا يتسم به إلّا ذوو الهمم العليّة والنفوس الأبيّة، وهو من الالتزام الأخلاقي للفرد والمجتمع؛ وهو من القِيم والمبادئ التي يجب تنشئة الأطفال عليها؛ فالإحساس بالانتماء للمكان يتوقف على ما نغرسه في أطفالنا من مشاعر الألفة والولاء في ظل الأسرة التي هي وطن الطفل الأوَّل؛ ولذلك اهتم الإسلام بها وجعل بِرَّ الوالدين في مقدمة مكارم الأخلاق، بل يلي الإيمان بالله تعالى، وجعل عقوقهما من الكبائر؛ فمن لا يحسن الانتماء لوالديه لن يحسن الانتماء لوطنه.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.