فى مقالين سابقين تحدثت عن أصلين من أصول الليبرالية وهما الحرية والفردية . أما ثالث هذه الأصول فهى العقلانية ، ويمكن القول بأن العقلانية هى القاسم المشترك بين المدارس العلمانية المختلفة وليست وقفًا على الليبرالية فقط وبعيدًا عن ألاعيب السياسيين وتمييعهم للمضامين يمكننا القول بأن العقلانية فى الفكر الليبرالى يقصد بها استقلال العقل البشرى بإدراك المنافع والمصالح دون الحاجة إلى قوى خارجية . ومثل الكثير من مقومات الفكر العلمانى عمومًا والليبرالى خصوصًا كان طغيان الكنيسة الكاثوليكية فى أوروبا العصور الوسطى بما فرضته من وصاية غاشمة على العقل الأوروبى وما أملته من مفاهيم لاهوتية وكهنوتية غاية فى التحجر والخرافة ، كانت ردة الفعل المضادة وتمرد العقل الأوروبى مع بدايات عصر النهضة على سلطة الكهنوت وسلطان الدين كمصدر للمعرفة حتى بلغت هذه الثورة الفكرية غايتها فى القرن التاسع عشر بإقصاء الدين والقيم الاجتماعية والأخلاق تمامًا واعتماد العقل كمصدر وحيد للمعرفة . يقول محمد المحمود أحد رموز الفكر الليببرالى العربى ( إن ما نحتاجه الآن هو قطيعة نوعية مع تراث بشرى تراكم على مدى أربعة عشر قرنا ، يقابله اتصال خلاق بالنص الأول فى مقاصده الكبرى وليس مجرد ظاهرية نصوصية لا تعى ما بين أيديها ولا ما خلفها ) . وهو بالطبع يقصد بالتراث الفقه الإسلامى ويقصد بالنصوص غير الواعية نصوص الكتاب والسنة . من هنا يأتى الصدام والتقاطع بين الإسلام والليبرالية ، ذلك أن الإسلام يجعل من الوحى المتمثل فى الكتاب والسنة مصدرًا للمعرفة مقدماً على العقل الذى جعل له الإسلام فضاء رحيبًا يعمل فيه بما لا يتعارض مع الثوابت والمحكمات التى جاء بها الوحى ، وليس معنى ذلك أن هذه الثوابت تتعارض مع العقل لسبب بسيط وهو أنه ليس هناك عقل مطلق أو عقل ذو وجهة واحدة ولكن العقل يختلف من شخص إلى آخر فهى آراء متنوعة ومتناقضة فى كثير من الأحيان، تجنح بها الأهواء والشهوات إلى حد الشطط بل إلى حد اللامعقول . وبالتالى لا يمكن تنصيب العقل حكمًا على النص الشرعى الثابت بالوحى لسببين أولهما أن ذلك يتعارض مع جوهر الإسلام نفسه الذى يعنى الاستسلام والخضوع والعبودية لله والقبول والانقياد للأمر والنهى الثابت بالوحى ، وثانيهما أن العقول تتباين فى رؤاها وتتعارض فى منطقها وبالتالى فسوف تتعارض العقول فى حكمها على النص الشرعى بما يحوله إلى وجهات نظر متباينة تعبر عن رؤية قارئ النص أكثر من كونها حكمًا شرعيًا .هنا نحن أمام منطقين متعارضين لا التقاء بينهما ، منطق ليبرالى يرفض الثوابت والحقائق المطلقة ويجعل من العقل قيما على النص الشرعى ، رافضاً أى حرمة أو قدسية لأى نص أو حكم ولو كان ثابتًا بالوحى قطعيًا فى دلالته . فالليبرالية تنظر إلى الإسلام والأديان عمومًا على أنها فكر بشرى تراكم على مدى السنين ،أضفيت عليه ألوان من القدسية نتيجة لظروف اجتماعية وسياسية وتاريخية معينة ، يقول حسن حنفى أحد رموز هذا الفكر (إن الله لفظة نعبر بها عن صرخات الألم وصيحات الفرح ، أى أنها تعبير أدبى أكثر منه وصفًا لواقع ، وتعبير إنشائى أكثر منه وصفًا خبريًا.. فالله بصفاته السبع هو الإنسان ). ويرى نصر حامد أبو زيد (أن النبوة قضية إنسانية محضة ، وأن الوحى نوع من الخيال بالغ القوة إلى درجة الاتصال بين الفكر والواقع ) هذا هو المنطق الليبرالى العلمانى عمومًا فى النظر إلى النص الدينى . وعلى النقيض يأتى منطق الإسلام الذى يجعل من النص الدينى ضابطًا لحركة العقل ووعيه ، ومن نور الوحى مرشدًا للعقل من غير إلغاء للعقل ولا تعطيل لملكاته ولا تقييد لحركته. وبالجملة فالإسلام هو طريق ثالث معتدل بين طغيان العقل الليبرالى مقطوع الصلة بالوحى ، وبين وطغيان الكهنوت الكاثوليكى المقيد للعقل بأغلال اللاهوت و أثقال الخرافة. [email protected]