كنت أجلس في مقدمة المدرج منصتاً ومنتبهاً لمحاضرة يلقيها أستاذ وصفوه بانه ( صعب).. كان هذا سبباً كافياً لأجلس في المقدمة ومعي كل حواسي..كان الأستاذ يتحدث عن مشكلة علمية وقبل ان يطرح حلاً لها توجه بالسؤال الى طلابه..على من ستعتمد في حل المشكلة؟ هل ستعتمد على السيد الوالد؟ لحظات ظلت في ذاكرتي.. حينها كان ينظر في وجوه الطلاب الجالسين في المقدمة..ونظر الى مباشرة وكأن سؤاله موجه لي.. كان مقصد الأستاذ لحظتها ان المشكلة التي عرضها تبحث عن حل علمي وتفكير منظم.. سبق هذا الموقف بشهور وفاة والدي.. وبعد هذا الموقف بعدة سنوات بدأت قصتي مع الأستاذ..التحقت بالدراسات العليا بحثاً عن هدف يخرجني من براثن ظروف اسرية ونفسية قاسية.. اجتزت مرحلة التمهيدي واشرفت على تسجيل رسالة الماجستير، والتسجيل يتطلب استاذاً يقبلني ويقبل مشروعي.. في عالم الدراسات العليا المشرف هو كل شئ...بالطبع هو لا ينفع ولا يضر الا بقدر الله...تجنبت التوجه للأستاذ (الصعب) بناءاً على محاذير من حولي ..توجهت لأساتذة آخرين.. رفضوا طلبي والأسباب لم تكن مقنعة على الأقل بالنسبة لي...كل الطرق تؤدي الى الأستاذ (الصعب)...قابلته وطلبت منه الرعاية والاشراف..اجابني ناصحاً ومحذراً " يا بني شوف حد تاني ..حتتعب معايا " ..باصرار رددت " وانا عايز أتعب ".. كان يسير الى مكتبه بينما نتبادل هذه الكلمات..جلس واخرج ( علبة بسكويت) اعطاني منها فاخذت وشكرت.. هنا البداية الحقيقية لقصتنا.. كان علي ان اجتاز اختبارات متعددة في البداية حتى يثبت للأستاذ بالدليل القاطع انني طالب علم ولا أكثر.. الأستاذ لم يكن صعباً.. مشكلته فقط انه صاحب مبادئ!!!...قبلت التحدي واجتزت الاختبارات المتتالية بين دهاليز المكتبات ومتاهات الأبحاث والمراجع.. مر عام كامل قبل أن يصدر حكمه الأول " الان لا املك الا ان اشرف عليك..كلما وضعت أمامك حاجزاً تخطيته..من الان أنا معك ".. قبل الأستاذ الاشراف علي..ورفض الاشراف على من لم يأمن جديتهم ولم يضمن جهدهم..رفضهم وكانوا يملكون مالاً ومناصب وبطاقات توصيات!! وقبل انساناً بسيطاً جاءه يسعى من اقصى جنوب مصر لا يملك الا رغبة في العودة الى الحياة مجدداً .. وبدأت علاقة اكاديمية وانسانية امتدت الى نحو 12 عاماً..صار هو قدري وصرت أنا قدره..اتعبني واتعبته.. احبني واحببته..يوماً يشجعني..ويوماً ينهرني.. يوماً يودعني بحفاوة.. ويوماً يطردني بقسوة...يوماً يبخل عني بكلمة رضا.. ويوماً يضع نقوداً في جيبي لأطبع رسالتي!!.. يوماً يمدح أدائي على طريق العلم.. ويوماً يتهمني باني تغيرت ولم يعد يهمني العلم... أستاذي يربيني ويعلمني ويعصرني عصراً.. يعرف متى يجبرني على الوقوف ومتى يدفعني الى الأمام..حركة مد وجذر متتابعة يجيد استاذي ادراتها مع طلابه ليصنع منهم قيمة..استاذي يشكل طلابه على طريقته الخاصة.. سنين طويلة وصعبة مرت في الماجستير والدكتواره حتى وصلنا معاً لليوم المنتظر..يوم مناقشة رسالة الدكتوراه..اثناء المناقشة كان استاذي قاسياً كعادته..في العلم هو لايخشى لومة لائم..اما قبل المناقشة وبعدها فكان هو ( ابو العريس) وكنت انا ( العريس).. السعادة كانت تسكن قلبه وتمرح في عينيه..يوماً انتظره مثلما انتظرته.. يوماً جاء بعد 12 عاماً .. وكانت الدكتوراه ..نطق هو بالحكم.. سجدت لله شكراً .. توجهت لأستاذي فقبلت يده.. انزعج ثم ابتسم..بعدها ودون ان اشعر انسحب استاذي في هدوء وتركني افرح مع اهلي واحبابي.. بعدها بعام واكثر انسحب استاذي من الدنيا كلها بأمر الهي لا يقبل الا التسليم.. رحل أستاذي وتركني انساناً آخر...رحل وفي الحلق مرارة شعور بيتم يتجدد.. استاذي ووالدي الدكتور محمد عصام المصري.. وداعاً.. كل أملي ان اكون عملاً صالحاً يضيفه الخالق الى صالح اعمالك...