لم يكن الطريق نحو الديمقراطية في الغرب سهلا ومعبدًا على الإطلاق فقد أريقت دماء كثيرة، وكان هذا الطريق يعج بالحروب الطويلة والدسائس، وما من بلد في أوروبا إلا وقد عاني من ويلات الحروب الداخلية والخارجية الطويلة في طريقها إلى الكلمة السحرية "الديمقراطية". ومع ذلك كانت الثورة الفرنسية هي الدراما الأكثر قوة في الطريق نحو الديمقراطية. ولعله من المفيد أن نعود قليلا إلى الوراء لندرك أن الديمقراطية جاءت كضرورة حياة للدول الغربية بعد سنوات دموية طويلة من الصراعات الداخلية التي كانت تهدأ قليلا في الداخل فقط عندما يكون هناك صراع خارجي. وبعد سلسلة من الحروب بين انجلتراوفرنسا استمرت في الفترة ما بين عام 1437 وعام 1453 واصطلح على تسميتها بحرب المائة عام. ولم يمض الكثير حتى نشبت حرب الثلاثين عامًا (1618 – 1648م)، ومزقت أوروبا بأكملها، واشتركت فيها معظم الدول الأوربية تباعًا فيما عدا انجلترا وروسيا، وتم استخدام الجيوش المرتزقة على نطاق واسع، وأدى ذلك إلى انتشار الأمراض والمجاعات، وانخفض عدد السكان في ألمانيا فقط بنسبة 30% على الأقل من عدد السكان (من 20 مليون نسمة ليصبح 13,5 مليون نسمة). ثم نشبت حرب السنوات السبع (1756 – 1763م)، والتي خاضتها فرنسا والنمسا وروسيا والسويد وسكسونيا وبعد مدة انضمت إليهم كل من أسبانيا والبرتغال ضد بريطانيا وبروسيا ودولة هانوفر. وتحالفت بريطانيا الكاثوليكية مع بروسيا البروتستانتية التي كانت تملك جيشًا عظيمًا، ولكنها لا تملك قوة بحرية يمكن أن تخشى منها بريطانيا على نفسها، وكانت بريطانيا تستهدف تحطيم القوة البحرية لفرنسا للفوز بمستعمرات فرنسا في أمريكا الشمالية والهند. وقد جرت أبرز وقائع معارك السنوات السبع في أمريكا الشمالية والهند، وبالفعل انتهت الحرب بعقد معاهدة باريس، وخرجت بريطانيا فائزة من الحرب وسادت بحار العالم– وبرزت بروسيا كقوة برية عظمى بلا منازع.
اشنقوا آخر قاضي بأمعاء آخر إعلامي ويقول السيد/ حسن جلال – مدير مكتب وزير الحربية المصري في كتابه الرائع عن الثورة الفرنسية الذي صدر في عام 1914عن لجنة التأليف والترجمة والنشر (لاحظ أن رجلا بهذه الثقافة الرفيعة كان رئيسًا لمكتب وزير الحربية): "تمتاز الثورة الفرنسية بأنها لم تكن ثورة سياسية ترتب عليها انقلاب في الحكومة فحسب، ولكنها كانت ثورة سياسية واجتماعية واقتصادية، فأما كونها ثورة سياسية، فلأنها انتهت بقلب نظام الحكم الملكي في فرنسا إلى نظام جمهوري، وأما كونها ثورة اجتماعية، فلأنها أدت إلى إلغاء امتيازات الأشراف ورجال الدين ومحت الفوارق التي كانت قائمة بين طبقات الشعب الفرنسي وجعلت فرنسا كلها طبقة واحدة بعد أن كانت ثلاث طبقات متباينة، وأما كونها ثورة اقتصادية فلأنها غيرت نظام الضرائب والرسوم الجمركية وألغت نظام الاحتكار ومحت القيود التي كانت على الصناعات، وانتزعت أملاك الكنيسة وجعلتها ملكًا للأمة". ويقول حسن جلال عن ذلك: "وكانت المراكز السامية في الجيش والبحرية ودور القضاء وقفًا على الأشراف، ولم يكن يطمع واحد من أهل الطبقة الوسطى في أن يرقى إلى طبقة أعلى مهما كانت قدرته وكفاءته. أما الطبقة السفلى فكانت تتمرغ في حمأة الجهل والفقر. وكان رجال الدين في نعيم لا يتفق مع من صناعته بيع الدنيا وشراء الآخرة، وكان أصحاب المناصب العالية منهم يحيون حياة بعيدة كل البعد عما هو مفروض على مثلهم من الواجبات". وكانت فرنسا التي يملك 1,5% من سكانها 22% من أراضي البلاد – و5% من السكان يملكون 82% من ثروات البلاد، هي من أكثر الدول الأوربية معاناة في فترة التحول نحو الديمقراطية وكتابة دستور للبلاد. وبعد أن قامت فرنسا بخلع آخر الملوك وهو لويس السادس عشر في عام 1792، لم تشهد البلاد أي نوع من الاستقرار، بل شهدت فترة دموية للتخلص من رجال الكنيسة و"فلول" الملك، وكان شعار تلك المرحلة الدموية "فليتم شنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس" وتكبدت الثورة ما يقارب 30 ألف قتيل وأكثر من 50 ألف سجين من السياسيين في بعض التقديرات، بينما يقول الدكتور محمود أبو الوفا الخبير بجامعة الدول العربية أن ضحايا الثورة الفرنسية كانوا يزيدون عن ثلاثمائة ألف قتيل سواء من أعداء الثورة أو أنصارها. وعندما أدرك أن الفساد لم يكن من الملك والملكة والحاشية فقط فبدلوا شعارهم من: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس .. إلى اشنقوا آخر قاضي بأمعاء آخر إعلامي. ويقول الدكتور يواقيم رزق في "تاريخ الكنيسة الغربية": "ومع أن الكهنة هناك لم يتجاوز عددهم المائة ألف فإنهم ملكوا عُشْر الأرض فضلا عن التمتع بدخل لا يُستهان به من العشور المفروضة على الفلاحين، وكانوا يحكمون أنفسهم بمجامع تعقد مرة كل خمس سنوات. وكان للكنيسة إرادتها الخاصة وهي مسئولة عن مالياتها وكانت معفاة من الضرائب، ولكنها قدمت منحة استطاعت بها أن تفرض الضغط المالي على الحكومة عن طريق التهديد بقطع هذه المعونة للخزانة أو خفضها. فقد كانت تهيمن على التعليم هيمنة تكاد تكون تامة، وكان الأعلام في قبضتها جزئيا لأن منبر الكنيسة كان الوسيلة الوحيدة لنشر الدعوة لسياسات الحكومة على جمهور كبير معظمة من الأميين، أضف إلى ذلك أن الكنيسة كان في استطاعتها منع المطبوعات التي كانت تري فيها خطرًا على الدين أو على الأخلاق. وقد كان الأساقفة كلهم من النبلاء، كذلك كانت رئاسة كثير من المجامع الكنسية والبيوت الدينية للرجال والنساء حكرًا على الطبقة الإقطاعية دون غيرها، بل كثيرا ما كان رؤساء الأديرة ورئيساتها ونظار الكنائس يعينون وهم لا يزالون أحداثًا. ويستطرد الدكتور يواقيم قائلا: "والي جانب التناقض الداخلي في الكنيسة بين الأساقفة من أصل نبيل ورجال الدين من المراتب الدنيا فقد قام التناقض بينهما وبين الفلاحين، فقد شاركت الكنيسة بوصفها مالكه كبري للأرض، ومالكة ملكية إقطاعية في إدارة أملاكها إدارة غلبت عليها روح الكسب الأمر الذي رأي فيه الفلاحون جشعا وبخلا قبيحين". وكتب الدكتور محمد عباس المفكر الإسلامي عن تلك الفترة يقول وتحت نفس العنوان الذي ساد الأجواء الفرنسية أثناء الثورة: بعنوان اشنقوا آخر قاضى بأمعاء آخر إعلامي!! في الثورة الفرنسية الدموية حدثت مجازر وأعاجيب .. قتلوا الملك والملكة والحاشية.. وكانت أحكام الإعدام تصدر بالمئات والآلاف .. في مقاطعة واحدة قُتل ستمائة ألف.. الدكتورة ليلى تكلا واحدة من أفضل من وصفت هذه الثورة وأظهرت عوارها في فرنسا أما من فضحها في مصر فقد كان الكاتب العملاق جلال كشك .. كانت دفقة الطُهر الأولى للثورة قد تدنست.. ونشيد الليفيتانت روجيه دي ليل الذي غناه للثورة لم يعد ينطبق عليها .. انسحب الأطهار وتقدم الفجار .. وانقلب الثوار على بعضهم البعض .. ثم انقلب القضاة .. وأصبح القضاة يصدرون أحكاما بالسجن بل وبالإعدام على قضاة كل يوم .. وأصبحت الأحكام تشترى والبراءات تباع .. ووصل القضاة إلى درجة من الخسة لم يشهدها تاريخ فرنسا كله.. وأصبح البلاطجة وقطاع الطرق صبيانا يمارسون أعمالهم لحساب كبار القضاة وتحت حمايتهم .. وأصبح القضاء أكبر خطر يهدد بالقضاء على الثورة في فرنسا ومن ثمة عودة الإمبراطور نابليون.. لم يعد ثمة قضاة شرفاء وآخرون غير شرفاء.. بل أصبح هناك قضاة تتاح لهم الفرصة لبيع ضمائرهم وآخرون لا يجدون من يشتريها.. كانت الأحكام تباع بالملايين .. وتصدر دون منطق ولا قانون بل على الرغم من المنطق والقانون .. وعندما آلت الأمور لروبسبير قبل قتله هو الآخر، اجتمع بشيوخ الإعلاميين والقضاة وطالبهم بتطهير القضاء والإعلام فاختلفوا.. وجاء من بعده فأمر بإبعاد ألف قاضي وألف إعلامي فرفضوا وحرضوا الغوغاء والسوقة ليمارسوا الحرق والسلب والنهب.. وكان إعلاميون لا يكفون عن الكذب لتغطية الجرائم، وتداعت الأمور وتدافعت حتى أدرك الناس أن الفساد لم يكن من الملك والملكة والحاشية فقط فبدلوا شعارهم من: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس .. إلى اشنقوا آخر قاضي بأمعاء آخر إعلامي .. ثم انقلب العامة على القضاة والمحاكم فأحرقوا المباني وهدموها وسلبوا ونهبوا وانتهكوا البيوت والأعراض حتى قال من قال يا ليتنا وافقنا على ما عُرض علينا .. وتحولت المحكمة العليا إلى جراج للسيارات.. ونادي قضاة باريس إلى دورة مياه عمومية.. وخربت المحكمة الدستورية رغم أنها كانت أول محكمة في العالم .. وقال من قال أنه لولا ذلك لانهارت فرنسا ولفشلت الثورة .. ولمدة مائة عام بعد ذلك ظل القضاء والإعلام موصوما بما يشين.. بل لم يستعد القضاء كرامته إلا في القرن العشرين..". وفي أواخر عام 1790 كان الجيش الفرنسي في حالة كبيرة من الفوضى: معظم الضباط كانوا من طبقة العسكريين النبلاء، الذين وجدوا صعوبة متزايدة في الحفاظ على القواعد والنظام داخل صفوف الجند. في بعض الحالات، وكان الجنود الوافدين من طبقات الشعب الدنيا، ينقلبون على الضباط ويقومون بمهاجمتهم. وأدى ذلك ما أدى إلى حالات عديدة من الهجرة النهائية، بانشقاق الضباط وانتقالهم إلى بلدان أخرى، مما ترك الجيش دون قيادات خبيرة. هذه هي قصة الظروف التي سادت قبل وأثناء الثورة الفرنسية، أما التغييرات التشريعية والدستورية التي حدثت من جراء هذه الأزمات المتتالية في الطريق الطويل نحو الديمقراطية، فتلك قصة أخرى نعود إليها في المرة القادمة بإذن الله.