الفوز العريض والكبير الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات النيابية التركية بعد تعثره " الجزئي " في استحقاق يونيو/ حزيران الماضي والذي منعه حينها من الانفراد من تشكيل الحكومة منفرداً ، قبل أن يصحح الوضع لاحقاً ، هذا الفوز فتح شهية المحللين والمتابعين لمزيد من الدراسة والبحث للوصول إلى سر هذا المنجز السياسي الكبير الذي فاق توقعات أنصار العدالة والتنمية أنفسهم . معظم التحليلات ركزت على المنجز الاقتصادي اعتمادا على لغة الأرقام التي تؤكد أن تركيا باتت من أفضل عشرين اقتصاد على مستوى العالم ، كما أن مستوى النمو يعتبر الأعلى أوروبياً ، ما أدى إلى ارتفاع مستوى دخل الفرد التركي ، وتضاعف ثروات رجال الأعمال . ورغم الإنجاز الهائل الذي تحقق في الملف الاقتصادي ، إلا أنني – وبحكم تواجدي في المجتمع التركي منذ أكثر من عامين –أنظر إلى المنجزين الاجتماعي والإنساني كملفين من أهم إنجازات أردوغان المسكوت عنها ، واللذين يتميزان بالديمومة والثبات ، عكس الملف الاقتصادى الذي يتأرجح صعوداً وهبوطاً بفعل عوامل دولية وإقليمية نظراً لتشابك وتتداخل العلاقات الاقتصادية . والفكرة الحاكمة هنا أن ضعف المجتمع وموات قواه الفاعلة يغري قوى الاستبداد بالتمدد داخله ، وتهميش دوره وخاصة في مجالي المراقبة والمحاسبة . وهذا ما حدث في تركيا والتي شهدت العديد من الانقلابات العسكرية ، آخرها الانقلاب الأبيض في شباط/فبراير 1997 والذي ترك جرحاً غائراً داخل أردوغان ورفاقه ، وداخل المجتمع التركي برمته ، إذ كان إيذاناً بالتضييق على الحريات ، وعاشت البلاد سنوات عصيبة وصعبة ، أيقن معها أردوغان أنه لابد من إعادة شحن طاقات المجتمع ، وتقوية مفاصله ، لمواجهة التلاعب بإرادة الشعب ، وإهدار اختياراته . ومن هنا فقد عمد أردوغان وحزبه عقب تسلم الحكم عام 2002 إلى بعث الروح في المجتمع التركي ، وإعادة تشكيل الإنسان تزامناً مع الإصلاحات الاقتصادية الهائلة التي استفاد فيها بتمهيدات الراحل الكبير تورجوت أوزال ورؤى الأستاذ القدير نجم الدين أربكان . فكان لابد من رفع الآصار والأغلال التي تعوق حركة المجتمع ، وتفرض قيوداً على الإنسان وتحد من قدرته على الإبداع والمشاركة الإيجابية . ومن هنا خاض أردوغان معارك تشريعية ضخمة في هذا الشأن وتصدى بصلابة للدولة العميقة ، فشهد المجتمع التركي تقدماً هائلاً في إنشاء وتأسيس الجمعيات والمنظمات الأهلية ومنحها حرية الحركة والتواجد المجتمعي ، أذكر قبل عامين دعيت إلى احتفالية بالمولد النبوي الشريف نظمها أحد الأحزاب الكردية الإسلامية ، وأثناء الحفل مال علي الجالسين بجواري وقال لي : قبل ذلك كان تنظيم مثل هذه الاحتفالية يعني خروجنا من هنا إلى السجن !! تنظيم المجتمع الأهلي ودفعه للعمل بقوة بجوار المؤسسات الرسمية ، مثًّل إضافة إلي الدولة ولم يكن خصماً منها ، فرأينا جهداً أهلياً رائعاً في تقديم المساعدات للاجئين السوريين الذين وصل عددهم على الأراضي التركية حسب إحصاءات غير رسمية إلى أربعة ملايين سوريّ . كما مكن الدولة التركية من التمدد الخارجي فى أفريقيا وآسيا والبلقان عبر المساعدات الإنسانية التي وصلت قيمتها خلال العامين الماضيين إلى أكثر من ثلاثة مليارات دولار احتلت بها تركيا المركز الثالث عالمياً بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا في تقديم المساعدات . كما مكن استنهاض قوى المجتمع أردوغان من التصدي لمحاولات الانقلاب عليه ، ففي عام 2007 وجهت إليه القيادة العسكرية مذكرة شبيهة بالتي سبق تقديمها لأربكان عام 1997 وذلك على وقع أزمة ترشيح عبد الله جول لمنصب الرئاسة ، ولكن أردوغان رفضها ولجأ إلى خيار الانتخابات المبكرة والاحتكام إلى الشعب ، وفى ديسمبر 2013 تصدى أردوغان لمحاولة الانقلاب الناعمة من خلال النزول للشارع ، وحقق الحزب انتصاراً كبيراً بعدها في مارس 2014 في انتخابات البلديات . النشاط المجتعي الهائل الذي تفجر خلال السنوات عمد إلى إنهاء القطيعة المفروضة على الشعب التركي مع تراثه وقيمه وتاريخه ، من خلال أنشطة أهلية متعددة في مجالات حفظ القرآن الكريم وتعليم اللغة العربية والتاريخ والسيرة النبوية ... إلخ . كما ساهمت الأجواء الصحية التي يعيش فيها المواطن التركي على مدار ثلاثة عشر عاما ، في تشكيل وعيه وشعوره بكينونته وقيمته ودوره المهم في بناء بلده ، فتحول من حالة السلبية إلى الإيجابية الخلاقة التى انعكست على المشاركة الواسعة في الاستحقاقات الانتخابية ، ومما يحسب لأردوغان وحكومة العدالة والتنمية الآن بقيادة داود أوغلو المزاوجة بين الأمن والحرية ، فرغم المعارك الضارية التي تخوضها الدولة ضد تنظيم العمال PKK وضد داعش ورغم ضراوة المواجهات ، إلا أنهم رفضوا اللجوء إلى إجراءات استثنائية ، أو إشاعة الخوف في أرجاء المجتمع بل أصروا على المواجهة والحرية معاً ، لذا كان ملفتاً للأنظار حصول العدالة والتنمية فى الانتخابات البرلمانية على نسبة 25% في محافظة ديار بكر المعقل الكردي الكبير وهى نسبة تعكس شعبية الحزب وسط المكون الكردي . وأخيراَ فإن مشكلة مجتمعاتنا العربية والإسلامية أدركها المفكر الكبير مالك بن نبي – رحمه الله- في وقت مبكر وهي قابليتها للاستعمار ( في زمنه ) وللاستعباد ( في زمننا ) ما لم يتم استنقاذها وتحرير إرادتها وإطلاق طاقات التحدي داخلها ، وهذا ما فعله أردوغان ورفاقه ، وضربنا عنه الذكر صفحاً في بلادنا .