كنت أعمل في احدى الصحف المصرية الكبري , هذه الصحيفة قررت ذات يوم ان تمنح الفرصة للطلبة الجامعيين للتدرب بها على مهارات وفنون العمل الصحفي مع تعيينهم بعد التخرج, وتقدم الآلاف الذين تمت غربلتهم إلى مئات, وجاء هؤلاء المئات إلى الصحيفة لاختيار الاقسام الذين يرغبون في التدرب بها , وكانت المفاجأة ان عدد الراغبين في التدرب بقسم الاقتصاد يساوي ..لا أحد! واندهشت كثيرا من ذلك , فانتحيت جانبا مع احد المتدربين وسألته عن السبب في العزوف عن التدرب بقسم الاقتصاد فقال لي " هل تري كل هذه المجموعة , جزء منها يعشق الافلام والتلفزيون والسينما وبالتالي سيلتحق بقسم الفن أو المنوعات وجزء يفضل الشأن المحلي سيلتحق بقسم المحليات وفريق يميل إلى التحقيقات, وآخر يحب السياسة والتاريخ فالأقرب اليه قسم الخارجيات لكن بالله عليك من الذي يحب الاقتصاد, ارقام واحصائيات ياعم هو احنا ناقصين , وبعدين الارقام دي شغلانه الناس اللي عندهم خبره.. مليارات ودولارات ودوشة دماغ " ولأن معظم الناس لا يحبذون التعامل مع الارقام واذا سمعوا او قرأوا ارقاما فإنهم يصدقونها على اساس انها حقيقة ناجزة لا تقبل الشك , فإن أهل الاقتصاد يستغلون هذا الموقف ويلفقون الارقام ويجملونها ويزورونها كما يحلو لهم , فلا احد سيهتم ولا احد سيراقب ولا احد سيتابع , وبنفس هذا المنطق يجري التعامل مع القضايا الاقتصادية الكبري , ويتم تزوير الارقام , للضحك على الذقون وتلبيس العمة للناس , والناس يسمعون أرقاما ولن يجادلوا في الارقام , فكل شيء قابل للجدال الا الارقام لانها من المفترض ان تعبر عن حقيقة لا تقبل الشك , لكن في الاقتصاد يمكن استغفال الناس وخداعهم بالارقام ايضاً , ولأن الناس معظم الناس لا تحب الارقام , ولأنهم لا يفضلون الاقتصاد ولا يهضموه تمر "النصبايه" بلا ضجيج أو صخب . ماذا عن الارقام ؟ الارقام من السهل التلاعب بها باستمرار , فيمكن ملاحظة اختلاف البيانات الدولية عن البيانات المحلية بالنسبة للاقتصاد المصري بل ان اجهزة الدولة عندما تضع مؤشرات للاقتصاد المصري فإن هذه المؤشرات لا تكون موحدة وانما متباينة في كثير من الاحيان, والحقيقة ان عمليات التزوير هذه نشطت بشدة في عهد الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك حيث كان يتم الاستعانة بخبراء محاسبيين لتظبيط المؤشرات الاقتصادية , فيتم وضع مؤشرات ملفقة للنمو وللصادرات وللواردات والاستثمارات الاجنبية إلى جانب اللعب في الميزانية وجميع المؤشرات الاقتصادية الايرادات والمصروفات والعجز الاجمالي والعجز الصافي , معدلات البطالة، ، الدخل القومي للدولة والناتج المحلي، والاستهلاك المحلي، ومعدلات البطالة، والإدخار, والتضخم ولعل البعض ما زال يذكر ما أثارته الدكتورة شيرين الشواربى، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، بشأن عدم صحة التفسير المقدم من الحكومة حول ارتفاع النمو فى 2008/2009 عما كان متوقعاً، ووصوله إلى 4.7٪، حيث قالت خلال ندوة حول الاعلام الاقتصادي إن الحكومة عللت زيادة معدل النمو بارتفاع الاستهلاك العائلى، وأضافت أنه حرك النمو، وأدى فى المقابل إلى تراجع الإنفاق الأسرى فى نفس الفترة، الأمر الذى يعنى أن "فيه واحد غلط بكل تأكيد"! ضعف مصداقية البيانات والارقام الاقتصادية في مصر أحد أهم أزمات الاقتصاد المصري خصوصاً إذا علمنا أن بيانات الاقتصاد المصري ومؤشراته لا يتم تحديثها الا على اساس فصلي وبالتالي فإنها لا تصلح على فرض مصداقيتها كمؤشرات اقتصادية يمكن الاتكاء عليها لبناء قرار استثماري سليم , وفي المقابل فإن الدول المتقدمة لديها حزمة من المؤشرات الاقتصادية الاقرب إلى الصحة والمحدثة باستمرار والتي تساعد في تحليل الاقتصاد وفهم آلياته والتنبؤ بمستقبلة واتخاذ قرارات استثمارية وبحسب الدكتور تيسير رضوان الصمادي فإن مجلة الإيكونومست تقوم بإعداد مؤشر ربعي تطلق عليه (R-Word Index) حيث تقوم بإحصاء عدد المرات التي يتكرر فيها مصطلح الركود(Recession) في المقالات التي تنشر في الصحف والمجلات الاقتصادية الرئيسية ، وتعمد إلى توقع حدوث الركود الإقتصادي من عدمه بناء على ذلك! وقد نجح هذا المؤشر على الرغم من بعده التام النظرية الاقتصادية، في توقع بداية معاناة الإقتصاد الأميركي من حالة الركود في عامي 1990 و 2007! وفي مجال أداء السوق المالي، فإن البعض يتتبع ما يسمى “مؤشر ديسمبر” الذي يقول بأنه من الممكن توقع أداء أسعار الأسهم، من حيث الارتفاع أو الانخفاض، للعام بأكمله بناء على أداء السوق في الشهر الثاني من كل عام (As January Goes so Goes the Year)! ومن الغريب أن هذا المؤشر قد استطاع منذ عام 1962 ولغاية عام 2008 التنبؤ بأداء السوق الأميركي بنسبة 77%! ولكنه كان أكثر قدرة على التنبؤ بارتفاع الأسعار أكثر من انخفاضها؛ حيث نجح في الحالة الأولى بنسبة 86% مقابل 47% في الحالة الثانية! ما الحل؟ ..نحتاج إلى ارقام لا تخدعنا , ارقام تعكس المشهد الاقتصادي المصري دون تزييف أو تلفيق , ليبدأ الاقتصاد المصري مرحلة جديدة من الشفافية والمصداقية بعد ثورة 25 يناير. [email protected]