فى العهد الناصرى، كانت تعبئة النظام لشيطنة الولاياتالمتحدة جزءًا من صورة عبد الناصر، رغم أن السفير الأمريكى كافرى كان يلقب بالأب الروحى للضباط لأحرار، ولم يسجل أى نقد لواشنطن خلال السنوات الأولى لحكم الضباط، بل أن موقف إيزنهاور من أزمة السويس لقي استحسانًا فائقًا عند المصريين رغم أن عبد الناصر كان يقود معركة القواعد العسكرية، التى بدأت منذ تصريحات جون فوستردالاس وزير الخارجية الأمريكى عام 1955. ومما يذكر أن موقف واشنطن من الضباط الأحرار ودعمها لهم كان هدفه واضحًا وهو تصدى النظام العسكرى لتسلل الشيوعية على أساس أن الجيش قوة يمينية والشيوعية قوة يسارية لها نظامها الخاص ومن ضمنها الجيش الأحمر، ولذلك فوجئت واشنطن بموقف عبد الناصر ضد الغرب بعد سنوات قليلة وكأنها كانت تتوقع أن يسلم عبد الناصر بإهانة الجيش في مذبحة رفح وبرفض واشنطن مده بالسلاح. ثم نجحت إسرائيل فى دفع عبدالناصر إلى موسكو منذ مارس 1955 بسبب موقف واشنطن من طلب الأسلحة وتمويل السد العالى. لم يدرك المصريون أن موقف إيزنهاور لم يكن حبًا فيهم أو تعاطفا مع دولة صغيرة تعرضت للعدوان، ولكن يتصل الموقف الأمريكى بحسابات العلاقات الأمريكية مع بريطانيا وفرنسا فى مصر، وكان واضحا منذ عام 1945 أن واشنطن تستعجل الحلول محل الدولتين فى الشرق الأوسط لكى تتمكن من مواجهة السوفييت مثلما فعلت بتأسيس حلف الناتو ليتجاوز الدفاعات الأوروبية ضد الشيوعية. واحتفل المصريون بالرئيس كنيدى ووجدوا فيه تقاربًا بينه وبين عبد الناصر فى العمر خاصة بعد أن خطب عبدالناصر فى الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1960، كما أصيب المصريون بالصدمة لاغتيال كنيدى. ثم عادت صورة واشنطن السلبية مع المشاعر المصرية المعادية لما حدث عام 1967 وإعلان عبدالناصر أن واشنطن كانت تتآمر على حياته وأن الطائرات الأمريكية ساهمت فى العدوان عام 1967 من قاعدة هويلس الليبية فى طبرق. هكذا سارت المشاعر الشعبية مع المواقف الرسمية للنظام الناصرى الذى تابع الشعب وصارحهم بمعاركه الوطنية، لدرجة أن الشعب لم يتخل عن عبدالناصر فى هزيمة 1967 ليس فقط لعدم وجود بديل فى هذه الظروف الحالكة ولكن تعاطفا مع عبدالناصر وتحديًا لأعدائه. وأظن أن الشعب المصرى منذ 1967 بدأ يتصل عداؤه لواشنطن وتكرس العداء بعد 1979 رغم الحملة الرسمية الكاسحة لكى يبتلع الشعب حجج السادات فى التسليم لإسرائيل وواشنطن، بل بدأ الشعب لأول مرة يظهر عدم الارتياح لوزير الخارجية إسماعيل فهمى، ثم نسب الشعب إليه بطولات من خياله خلال سنوات ظهور كيسنجر على مسرح المنطقة ولذا قاد إلى كامب ديفيد، خصوصا بعد استقالته فى عهد مبارك أدرك الشعب أن واشنطن هيمنت على القرار المصرى، ولم يتعاطف مع مبارك عندما أدرك الشعب بحاسته أن واشنطن تضغط عليه لإدخال الديمقراطية فلم يصدق الشعب مبارك أو واشنطن، بل ازداد حقد الشعب على واشنطن كلما أدرك أنها الحامى للدكتاتور وسعيدة بتدهور مصر فى الداخل والخارج حتى صار مبارك إمام الساجدين للصنم الأمريكى. وعندما قام الشعب بثورته التاريخية، عقب المشادة الحامية بين مبارك وبوش فى شرم الشيخ وهى مشادة بين العشاق، كان يشعر أن الثورة هى ثورة على النظام وتحالفاته الأمريكية والصهيونية وإن لم ترتفع لافتة واحدة بهذا المعنى فى ميادين الثورة . ولأمر ما أدرك الشعب أن أوباما تحمس لرحيل مبارك رغما عنه على ضوء الملايين الهادرة فى الشوارع ولكنه قطعا يضمر شيئًا، لأنه لا يمكن أن يسعد أوباما عندما يصبح الشعب الطرف الرئيسى فى معادلة الحكم فى مصر. وأظن أن أوباما بدأ التخطيط الجدى لإحباط الثورة عندما أفزعه أن ينهض الشعب عن بكرة أبيه، رغم أنه قال فى الثورة المصرية شعرا، ويحتمل أن يكون إعجاب أوباما منصبا على الظاهرة النبيلة مع استمرار التخطيط لكتابة السطر الأخير فيها، رغم أنه فوجئ بكل السطور التى كتبها الشعب المصرى فى هذه الملحمة الخالدة. بدأت النهاية منذ تولى المجلس العسكرى، ولا أشك لحظة واحدة أن واشنطن كانت حاضرة بقوة فى المشهد المصرى منذ 25 يناير والفصول التالية. ورغم ذلك يشعر المواطن المصرى بأن واشنطن هى مصدر الشرور، وتزود المواطن من الإعلام الذى أفهمه أن واشنطن هى التى دبرت للثورة وأنفقت الملايين لتدريب الشباب الذى باع وطنيته وانقلب على وطنه بإمرة واشنطن، وكرس المجلس العسكرى هذه القصة وأثار قضية التمويل الأجنبى والتدريب فى الصرب، وذلك كله لتشويه صورة الثورة والثوار وأطلق المجلس العنان لإعلام مبارك للانتقام من الثورة والثوار بعدد أن تحقق للمجلس من الثورة غايته وامتصاص زخم الثورة. كذلك ألقى الإعلام فى روع الشعب أن واشنطن هى التى سعت إلى دخول الإخوان إلى السلطة وزورت الانتخابات لكى ينجح مرشحهم، وكان ذلك ضمن التعبئة النفسية ضد الإخوان واتهامهم بالعمالة وتناثرت قصص حول العمالة لأمريكا ثم اتجهت إلى حماس فى ضوء مساندة قطر للإخوان وكون حماس جزءا من الإخوان. وبعد عزل محمد مرسى، شدد الإعلام على أن التخلص من الإخوان هو صفعة لواشنطن واستقلال عن هيمنتها رغم التصريحات المصرية والأمريكية بدوام التواصل بين وزيرى الدفاع فى البلدين بشأن هذه التطورات. وبلغ الإعلام المصرى حد العبث عندما اتهم أوباما بأنه يعادى 30 يونيو باعتباره "إخوانيًا كتم إخوانيته"، واستعاد البعض سيرة أوباما واحتمال أن يكون قد تحول إلى الإسلام خاصة فى ضوء خطابه المتعاطف مع المسلمين فى جامعة القاهرة فى مايو 2009، وهو نفي الاتهام الذي يردده خصومه المرشحون للرئاسة حاليا. والسؤال: إذا كان أوباما غير راض عن عزل محمد مرسى بهذه الطريقة فهل عجز عن منع عزله؟ وإذا كان الشعب قد وجه عمدا لكراهية واشنطن واللعنة لأوباما ألا يزعج ذلك السفارة وواشنطن نفسها خاصة بعد أن أظهرت ويكيليكس أن شخصيات سياسية وإعلامية معروفة تتلقى أموالا شهرية من السفيرين الأمريكى والسعودى؟ أم أن واشنطن لا يهمها مشاعر الرأى العام المعادية مادام هذا الرأى العام لا دور له فى القرار السياسى.؟ وأخيرًا يجب أن نسجل أن موقف الرئيس السيسى من دور واشنطن كان أمينا ودقيقا عندما أعلن تفهمه للمقتضيات القانونية والسياسية التى تحكم موقف أوباما من النظام الجديد فى مصر. ولابد أن نذكر أنه يستحيل فى مقال بهذا الحجم أن نحيط بدقة وبالتفصيل بالموضوع وأنه لا مفر من الاعتماد على المظاهر العامة والانطباعات الشعبية ولا نزعم أنه تسجيل لعلاقات مصر بالولاياتالمتحدة خلال العقود الستة الأخيرة. وسوف تظل أسرار الكثير من الملفات خاصة الموقف الأمريكى من حكم الإخوان والمذابح المؤسفة التى تعرضوا لها، وحكم السيسى منذ يونيو 2013 وما تلاها من أحداث وتطورات، وهل حقق السيسى فعلا استقلال مصر عن واشنطن وهل تحرك صوب موسكو وبكين نكاية فى واشنطن ولماذا سكت على كراهية المصريين لواشنطن بل وغذى إعلامه هذا الشعور؟ تلك كلها أسئلة سوف يتكفل المستقبل بالإجابة عليها، والإجابة ليست ملحة فى الوقت الراهن.