بعض السلوكيات الصغيرة التي تقابلك يوميا في الشوارع أو الميادين أو المكاتب العمومية ، يمكن أن تغنيك عن فهم سياقات كبيرة للدولة في أعمال ومشروعات أهم ، لأن العقلية التي تدير هذه السلوكيات الصغيرة هي ذاتها التي تدير المشروعات الكبيرة ، وربما كان التأمل في تلك الصغيرة أو البسيطة يكون أكثر دقة نظرا لمحدوديته وسهولة متابعته وحصر تحولاته ، بعيدا عن المتاهات والأرقام والبيانات والتصريحات التي عادة ما تكون مرتبطة بالمشروعات الكبيرة . في مدينة الإسماعيلية ، حيث مركز طموحات الرئيس السيسي ومشروعه "القومي" الكبير لتنمية محور قناة السويس ، كان قد بدا لبعض الجهات المسئولة ، بما يشمل المحافظة والمجلس المحلي ووزارة الداخلية "المرور" أن يضع مطبات صناعية غير مفهومة المعنى في عدة طرق هامة وأخرى غير هامة ، وخاصة في المنطقة الأكثر أهمية ، وهي ما تعرف بمنطقة "نمرة 6" وما حولها من شوارع تحاذي استاد نادي القناة وجامعة قناة السويس القديمة والطريق الدائري ، المطبات غزيرة ، وهناك مطبات لا يفرق بينها أكثر من مائة متر تقريبا ، وعندما وضعت هذه المطبات في البداية لم يكن هناك أي تحذير مناسب ، فحدث أن تحطمت سيارات عديدة لأنها اعتادت أن تسير بالسرعة العادية وسط المدينة ولم تكن تتصور أن البعض بدا له أن يضع مطبات في هذه المنطقة ، كانت هذه الفكرة في أواخر عهد حسني مبارك ، ثم حدث أن قررت حرمه سوزان ثابت أن تزور الإسماعيلية لافتتاح مكتبة ومقر آخر على ما أذكر ، وكان يقتضي الأمر أن تمر بسيارتها في تلك المنطقة ، ومن ثم ، صبح الصباح على أهالي الإسماعيلية ليجدوا جميع هذه المطبات المزروعة في شوارعهم قد تمت إزالتها بالكامل ، وانساب الطريق وانتظمت الأمور ، حتى انتهت الزيارة "المباركة" ، وبعدها بأسبوع أو أسبوعين ، فوجئ الأهالي بنفس المسئولين يعيدون "زرع" نفس المطبات الصناعية السابقة في أماكنها ، ولا أحد يعرف الحكمة من زرعها أولا ، ولا الحكمة من إزالتها عندما قامت سوزان ثابت بالزيارة ولا أحد يعرف الحكمة من إعادتها بعد مغادرة الضيفة للمدينة . ظل أمر تلك المطبات على تلك الحال حتى تعايش معها الأهالي ، ربما لأن المدينة لم يزرها بعد ذلك شخصيات مماثلة ، حيث كانت مرحلة ثورة يناير واقترب الناس من السواء والعدالة ، لا كبير في البلد ولا صغير ، وشعر كل مواطن أنه سيد في وطنه ، حتى دارت الأيام ووصلنا إلى مشروع محور قناة السويس والاحتفالية الكبيرة التي قرر السيسي أن يقيمها للضيوف ، وكان مقرها بالإسماعيلية بطبيعة الحال ، ومرة أخرى ، فوجئ أهالي المدينة بحملة موسعة لإزالة جميع هذه المطبات الصناعية التي سبق إزالتها وزرعها ، وتم محو جميع هذه المطبات ، وانسابت الحركة ، وسعد الضيوف في المدينة ثم غادروا ، وبعد أن انتهى الحفل الشهير بأسبوع أو أسبوعين ، قرر المسئولون أنفسهم إعادة زرع نفس المطبات في نفس الأماكن بالضبط ، وبالكامل ، فلا يفهم أحد ، لماذا أزالوها مرة أخرى ، ولا لماذا أعادوها من جديد . لن أتحدث عن السفه في إهدار المال العام بتلك الطريقة ، لأن هذه كما قدمت حالات صغيرة وبطبيعة الحال ميزانيتها ليست بالضخمة ، رغم أنها في النهاية إهدار للمال العام ، ولكن الشاهد هنا ، هو الرجاء أن يشرح لنا مسئول في وزارة الداخلية أو وزارة الحكم المحلي أو محافظة الإسماعيلية ، لماذا يتم زرع المطبات ثم إزالتها ثم زرعها من جديد ، هكذا دواليك كما يقال !، هل المطبات سبة وعار نتخلص منه عندما يأتينا ضيوف أجانب ، ثم نعيدها بعد أن يغادروا ويبقى "المصريون" فيها . مرة أخرى ، يمكنك أن تقيس على تلك الطريقة وتلك العقليات وذلك السلوك الإداري والأمني والتنظيمي ، لتفهم لماذا تخلفنا ولماذا تقدم الآخرون ، ولماذا لا أمل في نهوض ولا تطور ، طالما تلك العقليات هي التي تدير شؤون البلد الصغيرة والكبيرة ، مشكلة مصر ليست إمكانيات فقط ، بل عقول وضمائر وإحساس ضروري بالكرامة .