في الإنترنت ، لا مجال إلا للحرية لكل فرد زائر للشبكة العالمية ، حيث تسقط كل أدوات الإقصاء ، سواء أكانت باسم الدين أو الطائفة أو حتى الدولة ، فجوهر فلسفة مجتمع الويب تتجاوز أنه مجرد وسيلة للاتصال السريع تختصر الزمن والجغرافيا ، بل إنه يؤسس مجتمعا افتراضيا تقوم العلاقات فيه على النمط الشبكي الأفقي الذي يتساوى أفراده من حيث الحقوق ، فلا يملك أحدا فيهم سلطة علي الأخر، فهو مجتمع لا توجد فيه قوانين تلزم سلوك أفراده ، إلا ما يمليه عليه ضمائرهم ، على عكس المجتمع التقليدي السلطوي ذي الطابع الهرمي. ومن هنا ، يصبح تلاقي الأفراد في تجمعات إلكترونية على أساس اتفاقهم في النظر لقضية ما يدافعون عنها ، وبالتالي تتعمق حرية الزائر إلى أقصى حد ممكن في مسألة الاختيار. هذه الفلسفة الشبكية تساعد على خلق ما يسمى بالعقل الجمعي أو الاتفاق على حد أدني من القيم والتصورات المشتركة حول القضايا المطروحة في التجمع الالكتروني الواحد ، سواء أكان زوار موقع محدد أو مجموعة أو منتدى أو بلوجرز. وأرى أن نمط التصورات المشتركة حول القضايا المطروحة هو الذي يحتاجه المصريون في هذا الظرف التاريخي الذي يسعى فيه الجميع لمشروع إصلاحي شامل للخروج من مأزق الحالة المصرية ، والتي لن تعرف انفراجا لا بمشروع التيار الإسلامي الذي قد يثير صعوده مخاوف على النسيج الوطني ، بسبب اهتمامه بالنص أكثر من البشر، ولا مشروع الليبراليين الذي لم ينجح في التواصل مع القاعدة الشعبية العريضة ، بسبب أداه النخبوي الاستعلائي في بعض الأحيان ، ولا مشروع السلطة التي تخطو نحو الإصلاح ، وفي ظهرها الضغوط الأمريكية. ومن هنا أدعو إلى إقامة " حزب لكل المصريين على الإنترنت " لصياغة المشروع الوطني العام للإصلاح الذي يمكن أن يعبر حالة الأزمة الراهنة ، ويشارك فيه بكافة انتماءاتهم الدينية والحزبية ، سواء أكانوا مسلمين وأقباط وحزب حاكم وليبراليون ويساريون وأخوان وناصريون ، وحركات تغيير ونقابات. هذا الحزب لا يطمح للسلطة كبقية الأحزاب الأخرى ، إنما يهدف إلى بلورة ثقافة مصرية في التعاطي مع قضية الإصلاح بجوانبه الشاملة بدءا من مشاكل دورات المياه في الميادين العامة ، وعربات الفول في شوارع المحروسة، مرورا بتمكين الناس من أكل عيشهم وابتكار أدوات تنموية لذلك لمواجهة أزمتي الفقر والبطالة ، وانتهاء بتغير الدستور ومشكلة الأحزاب ، وعلاقتها بالسلطة. فكل من لديه رأي بناء وايجابي في هذه القضايا ، سيحتضنه الحزب ليسعى لإنتاج مشروعه الإصلاحي الذي سيكون حصن الأمان ضد أي خطر خارجي و يرتبط في الوقت نفسه بأحوال الناس ، فمتى صلحت ، تحقق الإصلاح بمعناها الشعبي لا النخبوي ، ولا الأمريكي. ويدخل كل مصري هذا الحزب الالكتروني المقترح ، وهو مؤمن بأن أية مشكلة في هذا البلد لن يتم حلها ، إلا عبر التعددية والحوار، وعدم إقصاء الأخر، وأن مرجعية هذا الحزب هي الأمة المصرية ، بكل تاريخها وتراثها ودينها ، سواء أكان مسيحيا أم مسلما. وما يبرر فكرة الحزب في هذا التوقيت أن صعود التيار الإسلامي، بسبب أداءه المنظم في الشارع ، وتأثر السلوك الانتخابي للناس بالتعبئة الدينية التي شهدتها البلاد ، جاء في وقت تراجع فيه أداء الحزب الحاكم ، وهو ما كشف عن أن أحدا لن يستطيع الانفراد بمصر أيا كان ما يملكه من أدوات. ولعل القلق الذي انتاب المسيحيون المصريون ، وحتى المعارضة الليبرالية وحركات التغيير، من صعود جماعة الأخوان يؤكد أهمية صياغة هذا المشروع الوطني الذي يسمح لكل القوى السياسية والدينية بالمشاركة بالتواجد دون نفي الأخر تحت سقف مصر. ويستخدم الحزب الافتراضي المناظرات والحوارات والمناقشات المفتوحة ، والجدل الايجابي بين كل زواره وأعضاءه ، للوصول إلى أهدافه. ويجعل المشروع الوطني ، الإصلاح ليس مجرد عدد مقاعد حصدها كل تيار ، إنما منظومة شاملة يتم فيها صياغة دستور جديد أو نظام اقتصادي مناسب للبيئة المصرية أو نموذج ثقافي وأخلاقي يعالج التآكل المتسارع في قيم المجتمع. ولكن هذا المشروع لن يصيغه كاتب في مقال أو مفكر يدلي بدلوه ، بل سيتأتي عبر المناقشات الشفافة المفتوحة التي يطرح فيها كل الأطراف ( شباب وشيوخ ومثقفون وأناس عاديون ما لديهم بصدق ، عبر أدوات هذا الحزب الافتراضي الذي يقوم بطرح دوري لقضية إصلاحية للمناقشة ، ثم يخلص لما يشبه الوثيقة التي تنشر علي نطاق واسع في مصر. السياسة والفضاء الإلكتروني ويساعد الفضاء الالكتروني على صياغة التوافق المصري العام ،لاعتبارات أبرزها أن مصر تحظى بأكبر شريحة من زوار الإنترنت في العالم العربي ، وهي شريحة الطبقة الوسطى من الشباب والمثقفين والطلاب متنوعي الاتجاهات ، ووصل عددهم ما يقرب من 4 مليون زائر ، وفق بعض التقديرات ، وفي سيبلهم للازدياد في السنوات القادمة. ولا يقلل أحد من أهمية الفضاء الالكتروني في بلورة ودفع الأفكار السياسية، حيث أنه أكثر إغراء من ناحية المشاركة ، فهو منخفض التكلفة في مصر، كما أن معايير النشاط الإليكتروني سهلة ويسيرة ، علاوة على الحرية النسبية . ولعل هذه الإغراءات هي التي كسرت حالة العزوف بين الشباب المصري ، لتجد هناك نشطاء إنترنت مصريين لديهم مجموعات بريدية ن وبلوجرز يروجون لأفكارهم وقضاياهم عبر الميل الدوار ، والتي بدت واضحة في قضية مقاطعة السلع الأمريكية والإسرائيلية ودعم المقاومة الفلسطينية. بل إن هؤلاء تخطوا النطاق الافتراضي للانترنت ليشتبكوا أحيانا مع فعاليات الواقع ، حتى أن المظاهرات التي نظمتها حركة كفاية ، والأخوان المسلمون وغيرهم للمطالبة بالإصلاح تم التعبئة لها من الفضاء الالكتروني أولا ، ثم النزول للشارع. وبسبب سهولة ومرونة معايير الانتماء للفضاء الكتروني، فإن الحزب لن يضع في عضويته أية شروط سوى الاهتمام بالشأن المصري ، والشفافية والاحترام الأخر أيا كان رأيه. ويمكن أن يعتمد الحزب المقترح على التمويل الذاتي لأعضائه في إنشاء موقعه الالكتروني الذي سيكون بمثابة المقر الرئيسي له ، وقد يمتد إلي إنشاء موقع فرعية لكافة محافظات مصر ، كما سيعتمد على الأدوات الالكترونية في التواصل بين أعضائه ، كالميل الدوار، والشات والبال توك وغيرها. وفي حال الاقتناع بإنشاء الحزب الافتراضي غير السلطوي ، يمكن أن تؤسس هيئة من الرموز الوطنية والشباب ممثلين عن كافة التيارات في بر المحروسة ليقوموا بمشاورات الكترونية ، لا فرق فيها بين حكومة ومعارضة ، ولا بين مسلم ومسيحي ولا إسلامي ومسلم ، ففي الفضاء الالكتروني كلنا سواسية في هذا الوطن. (*) باحث وصحفي مصري ، [email protected]