تداعيات مقلقة ومبهمة سادت أجواء وإجراءات محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين بعد أن عُقدت سبع جلسات للاستماع إلى أقوال الشهود والمتهمين في قضية الدجيل، والتي وقعت أحداثها في عام 1982. وبعد أن حدد القاضي المستقيل رز كار محمد أمين يوم 24 من كانون الثاني موعداً لبدء الجلسة الجديدة للمحكمة، وتوافد الإعلاميون إلى مكانها أعلن رائد جوحي القاضي في المحكمة الجنائية الخاصة تأجيلها إلى يوم 29 كانون الثاني، وأنحى بالأسباب إلى عدم تواجد الشهود والمشتكين في العراق؛ لأدائهم فريضة الحج، والكل يعرف أن حجاج بيت الله الحرام وصلوا إلى ديارهم قبل هذا الوقت. وأشار المراقبون أن المحكمة على علم بظروف الشهود، وأن هذا لا يبدو سبباً مقنعاً لأن التأجيل جاء في الساعات المحددة لبدء جلسة المحكمة. وفي هذا الإطار أكد نجيب النعيمي وزير العدل القطري السابق والمحامي الذي يترافع عن صدام حسين في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية أن السبب الحقيقي للتأجيل هو استياء القاضي الجديد رؤوف رشيد عبد الرحمن من إجراءات التفتيش المتبعة معه من قبل الجنود الأمريكان. وتناقلت وكالات الأنباء عن أن قاضياً آخر يعاني من ارتفاع ضغط الدم سقط مغشياً عليه في المحكمة. ولا يبدو سير المحكمة مقنعاً لأسباب عدة أهمها: اغتيال محامي الدفاع وسط جو أمني مضطرب وقلق، كذلك فإن عمل المحكمة بطيء؛ إذ عقدت سبع جلسات خلال ثلاثة أشهر، وحدوث تجاوزات خلال الجلسات من الحاضرين، وأفراد الأمن تجاه المتهمين في بلد يؤكد حاكموه أنه يعيش زمن الديمقراطية، وينضم إلى هذه العوامل عاملان آخران يكتسبان أهمية، هما تسجيل وقائع المحكمة وخضوعها للمونتاج على الرغم من وجود كلمة "مباشر" على شاشات التلفاز، وهذا الأمر يجعل المشاهد يشكك في قضية النقل التلفازي، وقضية إخفاء معلومات عنه. أما العامل الأكثر أهمية فهو استقالة رئيس المحكمة رز كار محمد أمين الذي أدار الجلسات بكل هدوء وحكمة مما أثار انتقاد بعض السياسيين في العراق، وطالبوه بحزم أكثر مع صدام حسين ورفاقه. وحاولت الحكومة تلافي هدا الخلل الكبير من خلال محاولات كبيرة لإقناع القاضي المستقيل بالعدول عن الاستقالة، لكن بدون جدوى، وحُسم الأمر في النهاية بتعيين رؤوف رشيد عبد الرحمن رئيساً للمحكمة، وهو كردي أيضاً، ومن مواليد حلبجة 1941 بعد أن شككت لجنة اجتثاث البعث بالقاضي الهماشي، وأكدت أنه عضو عامل في حزب البعث. وفي هدا الشأن تنحى الحكومة منحى معروفاً من خلال تعيين قضاة أكراد من إقليم كردستان بسبب تخوفها من تهديدات محتملة للقاضي الذي يرأس المحكمة على اعتبار أن إقليم كردستان يتمتع بجو أمني مستقر قياساً إلى الوضع في بغداد ومدن الوسط، من أجل المحافظة على سلامة القاضي. وقد أثار اختيار بغداد مقراً لجلسات المحكمة انتقادات أخرى تجاه عدالة المحكمة في مدينة تشهد أوضاعاً أمنية متفجرة؛ إذ استهدف مقر المحكمة في جلسات سابقة بقذائف هاون . وفي إطار آخر يبدو وضع المحكمة غير مقنع لا سيما في مجال إثبات مسؤولية المتهمين عن التهم المنسوبة إليهم؛ فقد تحدث الشهود، وقد أخفى بعضهم اسمه، وهيئته خوفاً من التصفية، ولكنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا المشاركة المباشرة للمتهمين في عملية قتل (148)عراقياً في مدينة الدجيل، وفي هذا الجانب أعلن المحامي نجيب النعيمي خلال لقاء تلفزيوني معه براءة صدام حسين في قضية الدجيل، وأن الفيلم الذي عُرض ليكون عليه، صار له ويبرئه، وأن الشاهد الأول في المحكمة ملقّن وكذّاب، وعنده أدلة ثبوتية على هذا الكذب. كما أعلن براءة صدام من تهمة ضرب أكراد حلبجة بالكيماوي بأن الفاعل (كما يقول ) إيران حسب قول النعيمي؛ إذ لا يملك ذلك السلاح سوى إسرائيل وإيران وعنده على ذلك أدلة ثبوتية. تلك تداعيات محاور هذه المحكمة التي انقسم فيها العراقيون إلى قسمين: فمنهم من يقول: إن هذه الاتهامات غير موجودة فعلاً، ونظموا في ذلك مظاهرات مؤيدة لصدام في تكريت والعوجة والدورة وشككوا بشرعية المحكمة تحت سلطة الاحتلال. ومنهم من ينفي ذلك، ورفض هذا الفريق تحويل صدام ورفاقه المحكمة إلى منبر سياسي خاصة، وأنه لم يظهر على الشاشة منذ حوالي سنتين بعد أن كان سيد شاشة التلفاز والوسائل الإعلامية الأخرى، وهؤلاء نظموا مظاهرات معارضة لصدام في الدجيل (موقع الاتهام)والنجف والكوفة وطالبوا بإعدامه. في ضوء ما تقدم يتبين أن محكمة صدام لا تشبه المحاكم العادية، وإنما محكمة سياسية تلبس ثوب القانون، يُفرض فيها واقع حال عراق ما بعد الاحتلال، فكيف ستنتهي هده المحكمة في ضوء هذه الانتقادات والمؤشرات ضدها؟ وهل هي اليوم أمام مفترق طرق ما بين الاستمرار تحت مظلة القانون والابتعاد عن السياسة لإضفاء شرعية قانونية عليها أو السير في طريق القانون المسيس إذا صح التعبير؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة . المصدر : الإسلام اليوم