حين رأيت الأستاذ أسامة الغزالي حرب على إحدى الفضائيات وهو يرتعد ويرتجف ويعصر الكلام عصرًا ليربط بسرعة بين حادثة اغتيال النائب العام - رحمه الله - الاثنين الماضى وحادثة اغتيال القاضي الخازندار فى الأربعينيات.. ازداد اقتناعي بأن تجار الحرب والكراهية وحفاري القبور لا يريدون لهذا الوطن أمنًا ولا سلامًا.. هم يريدون فقط النار والمزيد من النار.. الأستاذ حرب وباقي زملائه بعد أن أدركوا أن حياتهم الفكرية والسياسية ذهبت هباء في هباء.. وأنهم عاشوا أزهى سنوات عمرهم يعلقون الأفكار الخائبة علكًا مثل (اللبان).. يريدون أن يغمضوا أعينهم ولا يفتحوها إلا وقد اختفى من الحياة شيء اسمه (التيار السياسى الإسلامي).. وهم يريدون للدولة في خضم الصراع القائم.. أن تعتبر أن- تلكم اللحظة هى أنسب اللحظات ملائمة لغلق هذا الملف نهائيًا وإلى الأبد كما قال أحدهم.. عماد جاد زميل الأستاذ حرب في المركز الاستراتيجي..ومندوب تيار العنف القبطى فى الإعلام.. قال إنه لن يكون هناك فى مصر بعد الآن منصب اسمه (المرشد العام) ولأنه خبيث خبث القطط والأرانب فقد قال إنه سمع هذه الجملة من أحد المسئولين الكبار، الأستاذ حرب والأستاذ جاد يريدان للدولة أن تستخدم كل أدوات العنف فى التعامل مع الأزمة الراهنة.. حين يتعلق الأمر (بالتيار السياسى الإسلامى) لا مكان للعقل والرشد والحوار والتفاهم وكل هذه المفردات.. وقد رأيتم (نساء الحوارى) فى الإعلام كيف تعاملت مع (ورقة د/أبو الفتوح ) وهى فى النهاية مجرد رؤية فى الفضاء العام يطرحها رئيس حزب ومرشح سابق للرئاسة وقيادي سابق في جماعة الإخوان.. لم يناقش أحد الرؤية ولا مضمونها.. الكلام كله كان حول الانقضاض عليه.. لأنه طرح أفكارًا قابلة للبناء عليها وتحريك الموقف الذي يتأزم كل يوم.. يخبرنا التراث أن لقمان الحكيم قال لابنه فيما قال له من نصائح وعظات.. يا بني كذب من قال لك أن النار تطفئها النار..؟ لم نر من قبل نارًا تطفئها نار.. إلا فى رأس أمثال من قال (داونى بالتى كانت هى الداء) ما رأيناه ورآه من قبلنا ومن سيأتي بعدنا أن الماء يطفئ النار..!! سيظل التاريخ مفتوحًا على غموض سؤال من أخطر أسئلة الفترة الماضية فى تاريخ مصر الحديث.. لماذا كان ولا يزال (الرصاص الحي) فى فض الاعتصامات والمظاهرات..؟؟ وأنت فى حقيقة الأمر تعلم أنك تتعامل مع فكر له أصول عقائدية راسخة. أنت إذن لا تريد إبادته وإقصاءه.. أنت تريد جره وسحبه إلى معركة دماء مفتوحة..لتعلن بعدها (أنهم اختاروا الدم).. فتمعن فيهم تقتيلا وتعذيبا.. ستقول لك التجربة أنهم لن يبادوا ولن يغيبوا.. آنت فقط تزيد النار حريقًا واشتعالاً بل وتشارك فى صنع أفكار شديدة الحدة والتطرف حول مفاهيم الدين المجتمع والدولة والسياسة والسلطة ..وتصنع مستقبلا مليئًا بالألغام الفكرية . كنت قد كتبت كثيرًا عن تجربة من أكبر التجارب الإنسانية فى تحقيق الصلح الوطنى (أيرلندا /إنجلترا).. وأشير هنا إلى أن تجار الحرب والكراهية حريصون كل الحرص على فرش بقعة دم عريضة على وجه الوطن.. بل وحريصة على اتساع هذه البقعة.. وتستخدم في ذلك تكرارات لغوية سقيمة ودنيئة لا مكان لها ولا وقت لها.. مثل هيبة الدولة.. وسقوط الدولة.. ومصر لن تخضع.. وهم لا علاقة لهم بفكرة الدولة ولا بفكرة الوطن هم فقط مجموعة من الأوغاد والأنجاس المناكيد على رأى المتنبي.. وقد رأينا نموذج المسارعة العبيطة إلى ربط حادث النائب العام - رحمه الله - وحادث الخازندار فى الأربعينيات وقت الاحتلال البريطاني لمصر. في الفترة ما بين 1973 و1998 كانت تفجيرات الجيش الجمهوري الأيرلندي الجناح العسكري لمنظمة (شين فين) في أيرلندا الشمالية تكاد تشل مراكز المدن البريطانية الكبرى بشكل شبه يومي.. وإلى حدود كانت تذكر البريطانيين بأيام الغارات الألمانية فى الحرب العالمية الثانية ..وعلى الفور تم فتح قنوات اتصال سرية مع قادة ذلك الجيش. على مدار أكثر من عشرين عامًا ورغم العداء التاريخى الكبير بين البروتستانت والكاثوليك ورغم كل الحملات الدعائية والإعلامية الهائلة ضد الجيش الجمهوري كان الأمل لا ينقطع أبدا فى وقف نزيف الدم هنا وهناك دونما كبر ولا غطرسة.. والناظر فى (العقل السياسى) الإنجليزي حقيقة لا يملك إلا أن يعجب به بل ويسترشد به أحيانًا كثيرًا.. كان ذلك العقل كامنًا في كل التطورات التاريخية الهامة كل الوقت.. التفاهم والتوافق وعدم السير إلى آخر المدى في تحقيق المطلوب إذ يكفى تحقيق (جوهر المطلوب).. وهو الأمر الذي أثمر ثمرته وأتى بتبدلات سياسية عميقة وانتهى إلى اتفاق الجمعة الشهير عام 1998 ووضع حدًا للصراع الدامي بين الجيش الجمهورى إنجلترا (الكاثوليك والبروتستات). كان باستطاعة الجيش البريطاني مدعومًا بكل أجهزة الاستخبارات البريطانية (إم آي 6) و(إم آي 5) أن يواصل ملاحقة عمليات الجيش الجمهوري وتسجيل نقاط عسكرية عليه وأنت في النهاية أمام ما يمكن تسميته (أمن قومي)... وحين تم هذا الاتفاق.. لم يتم تصوير الأمر أمام الرأي العام على أنه خضوع لضغط الجيش الجمهوري وابتزازه وعملياته المتواصلة التي تخدش هيبة (الدولة) وتجرح سيادتها.. ولم تخرج من (تجار الحرب) وكارهي الشعوب في الإعلام أصوات الخراب صارخة وناعية على (الدولة) ضعفها وخيبتها في إدارة الأزمة.. بل كان هناك التفسير والشرح والمباركة لكل ما يحفظ الدم ويصون وحدة الوطن والأمة داعمين لفكرة التفاهم والتوافق. تقدم الحالة الأيرلندية دروسًا هامة للغاية لحالات صراع متعددة تتشابه معها.. رغم أن كل حالة بطبيعة الأمر لها ظروفها المختلفة وجوانبها المميزة. لكن يبقى هناك جوهر أساسي يجمع معظم الحالات.. وهو استيعاب منطق (السياسة) وعدم الوقوع في الأسر لحالة الشلل والتفكير العقيم بضرورة استمرار فاتورة الدم، الدرس الذي تقدمه الحالة الأيرلندية في المقام الأول هو (ضرورة التحدث مع الجانب الآخر) مهما كانت مسافة الخلاف ومهما كان سقف المطالب. كلنا نذكر (العشرية السوداء) فى الجزائر التي بدأت عقب إلغاء نتيجة انتخابات يناير 1992 فى الجزائر..بدأ نزيف الدم الطويل الذي استمر ما يقرب من عشر سنوات.. إلى أن فهم الجميع - بعد أن دفع الثمن غاليا - أن الدم الذى ينزف له لون واحد.. وهو لون (ذاتيتهم الوطنية) فاتجه الجميع راضين تمام الرضا إلى مصالحة وطنية شاملة..رغم أن وقف المسار الديمقراطى الذى حدث بإلغاء نتيجة الانتخابات وقتها هو عمل غير ديمقراطى وغير وطنى ..إلا أن مسار الأحداث دعي فيه داعى العقل الرشيد بفهم أوسع لطبيعة الموقف وخطورته ..فكان الاستجابة لهذا الداعى بكل ما تفرضه المسؤولية الوطنية العليا من واجبات الفرض..إلى حد أن أحد أكبر من هللوا للجيش على ما فعله الروائى والكاتب (أمين الزاوى) وبعد أن كان يصف الإسلام بأنه يرعى (العقلية الإرهابية) لأبنائه منذ طفولتهم عن طريق طقوس مثل عيد الأضحى ..صار هو نفسه من يتحدث عن وحدة الوطن في (ظل الإسلام العظيم)...!! ما أسهل أن تكتفي السلطة - أى سلطة - وأجهزة استخباراتها في الاعتماد على منطق (الدولة الكاسرة) التى تمتلك كل أدوات القهر والإخضاع والإذلال.. لكن الأوطان لا (تحيا) هكذا .. .............. قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبار.. فاتهموا عينيك يا زرقاء بالبوار.