علق أحد القراء على مقال سابق "الإسلام ومشكلات العالم المستعصية" وكذلك وصلتنى أسئلة من بعض الأصدقاء تحمل استفسارا واحدا مشتركا تفيد بأن الحقائق التى وردت فى هذا المقال واقعية وشديدة الوضوح فكيف غابت عن علماء الاقتصاد و الساسة عندنا...؟ وأمام هذا الاستفسار لا يسعنى إلا أن أنبّه فى هذا المقال إلى ملاحظة هامة: أنه ليس عندنا علماء إقتصاد، ولكن لدينا أكاديميين وخبراء فى المسائل الاقتصادية.. ويمكن أن تجمع هؤلاء جميعا فى فئة واحدة فنطلق عليهم -بحكم المهنة- صفة "إقتصاديين".. ومن الناحية العلمية النظرية هم لا يأتون بشيئ جديد فى عالم الاقتصاد، وإنما ينقلون ما توصّل إليه الغرب من أفكار يتداولونها أو يحاولون تطبيقها؛ سواء فى ذلك الأفكار الماركسية أو الرأسمالية، أو مزيج ما بين الرأسمالية والماركسية.. معظم هؤلاء لم يكلفوا أنفسهم النظر أو التفكير فى الاقتصاد الإسلامي.. بل إن بعضهم ينكر وجود علم للإقتصاد الإسلامي، أو نظام إقتصاد إسلامي أو حتى مجرد إقتصاد يمكن تسميته بالاسلامي .. وأمثال هؤلاء للأسف هم الذين يُسْتدعون لإدارة شئون الاقتصاد فى البلاد المسلمة دون غيرهم.. مثلا: أحترم كثيرا من أفكار وتوجّهات الدكتور جودة عبد الخالق وزير التضامن والعدالة الاجتماعية.. فهو لم يتقاعس فى محاضراته بجامعة القاهرة -كأستاذ للاقتصاد- عن نقد سياسات الخصخصة وتفنيدها، والتنويه بفقدان عدالة النظام الضريبى، وتبديد ثروات الوطن و تصدير الغاز لإسرائيل، و انتقد سياسات الدعم الظالمة التى تنحاز لرجال الأعمال على حساب الفقراء.. كل هذه توجّهات تُحمد له ولا يستطيع منصف إلا أن يتفق معه فيها.. إلا أن ثقافته الإسلامية شديدة الضحالة: فقد أجاب على استفسار من أحد مريديه عما إذا كان هناك إقتصاد إسلامى فأجاب على الفورقائلا: "علميا لا يوجد شيء إسمه الإقتصاد الإسلامي" .. و أعتقد أن مثل هذه الإجابة السريعة المبتسرة لا تليق بأكاديمي يحترم المنهج العلمي فى البحث والتفكير.. وأغلب الظن أنها إجابة نابعة من الأفكار الشائعة فى كتابات الغربيين الذين لا قدرة لهم على الاتصال بالمصادر الإسلامية المتعلقة بهذا الموضوع، ولا رغبة لهم فيها.. ولا تستند إلى علم ولا معرفة حقيقية بالإسلام.. ولو أنصف نفسه لما اكتفى بمعارفه المهوّشة فى هذا الموضوع، ولما اطمأن إلى فتوى الشيخ طنطاوي باعتبارها القول الفصل فى موضوع الفوائد البنكية.. فنحن نعرف الظروف السياسية التى كانت وراء هذه الفتوى.. ونعرف أن الرجل كانت له -فى الموضوع نفسه- فتوى مناقضة فى كتاباته السابقة قبل أن يتولّى منصبه الرسمي كمفتى .. ونعلم أن الذين أمدّوه بالمعلومات عن المعاملات البنكية خدعوه.. وهو نفسه لم يكن له القدرة على التعمق فى دراسة المعملات البنكية كما فعل فقيه آخر مقتدر: هو الدكتور على السالوس.. يردد الدكتور جودة منطق الشيخ طنطاوى وفكرته المتهافتة عن الربا فيقول: " الربا وفقا للتعريف العلمى تجسيد لعلاقة استغلال بين إنسان وآخر.. وفى إطار هذه العلاقة يفرض شخصٌ شروطا مجحفة على شخص آخر يحتاج إلى المال ليلبىّ احتياجا أساسيا له كأن يأكل أو يشرب أو يعالج أبناءه، وفى هذه الحالة لايجوز أخلاقيا ودينيا أن أقدم مبلغا لشخص ما كَيْ يلبّى هذه الأغراض، وأطلب منه فائدة على هذا المبلغ لأن هذا هو الربا" ثم يتابع: "ولكن فى المعاملات البنكية الأمر يختلف لأن ما يحدث هو أن البنوك تتلقى أموالا من المودعين وتقوم باستثمارها وتحتفظ بجزء من العائد لنفسها كأرباح وتمنح جزءا آخر للمودعين كأرباح أيضا، والأهم من هذا أن العلاقة بين الجانبين علاقة طوعية لأنه لا البنوك تفرض على العملاء أن يودعوا لديها أو يقترضوا منها ولا العملاء يجبرون البنوك على أن تقبل أموالهم كودائع.." . هذا التبسيط المخل للمعاملات البنكية لا يعكس الحقيقة فى علاقة الناس بالبنوك.. فالبنك يعتبر الإيداع قرضا من المودع ويحدد له ربحا مسبقا وكذلك الذى يقترض يعتبره البنك مدينا ويحدد عليه فوائد سنوية مسبقة.. يُلزم بدفعها فى وقتها المحدد .. ويفرض عليه البنك عقوبات إن هو تأخر فى دفعها.. و يحرص البنك على أن يأخذ اموال المودعين بفائدة أقل ويقرضها بفائدة أكبر.. و يأتى مكسبه من هذا الفرق بين القيمتين وهذا هو الربا.. لأنها أموال لا يبذل البنك فى اكتسابها جهدا ولا عملا .. أما حكاية أن البنك يقوم باستثمار أموال المودعين ويقتسم الربح العائد معهم، فهي خرافة.. فالبنك يعطى القروض للمستثمرين ويفرض عليهم فوائد محددة سواء حققوا فى استثماراتهم ربحا أو خسارة.. و هذا هو الربا بعينه.. فقد يخسر المقترض فى مشروعه ثم يأتى البنك ليجهز عليه فهو يسعى لتحصيل مديونيته مع الفوائد بقوة السلطة والقانون، ويجرد المقترض من كل مايملك حتى لو أدى هذا إلى تشريده من بيته هو وأسرته...! أما أن يقْصِرَ الدكتور جودة -كما فعل الشيخ طنطاوى- الربا على أنه علاقة شخصية ظالمة بين مقترض محتاج إلى المال لتوفير حاجاته الأساسية وبين من يملك المال ويستغل حاجة الناس إليه.. وأن الدين حرم الربا فقط لهذا السبب فهذ تصور خاطئ للدين وللربا كليهما.. وتبرئة المعاملات البنكية فى القروض لأنها تقوم على علاقة طوعية بين طرفين متراضيين أيضا هو تصوّر غير صحيح.. فأكثر المدينين اليوم دول لا أفراد.. وقد رأينا دولا فقيرة وشعوبا طحنها الجوع تلجأ إلى البنك الدولي لإقراضها وتضطر للتوقيع على شروطه المجحفة لأنه ليس أمامها من سبل غيره.. ثم تقع فى المحظور وتجد نفسها تنحدر من سيء إلى أسوأ و فى نهاية المطاف تسقط فى هوّة الإفلاس..