هي بالفعل أشياء صغار، صغار في حجمها، كبيرة في معناها ودلالاتها، هي كثيرة ومبعثرة وإذا ضمت في شئ واحد لأصبحت كيانا كبيرا. إنها دليل التراخي الذي أصبح سمة وراثية تعبر من جيل إلى جيل ولن نقدر على التخلص من صحبتها. خذ مثلا هذا الشئ الصغير... في طريقي أمر أحيانا على محطة الإسماعيلية للسكك الحديدية، وأنظر إلى الساعة المعلقة أعلى واجهة المبنى فإذا عقاربها تشير إلى الواحدة إلا ثلث. مررت غير مرة والساعة لازالت على حالها من الشلل. لم ينتبه أحد من عشرات الموظفين بالمحطة إلى ما أصابها ليبلغ مدير المحطة ليأمر بصرف حجر بطارية يعيد إليها النشاط. فحتى هذا العمل البسيط لا نقوى على أدائه. ومما يؤكد اللامبالاة التي أدمناها أن كثيرا من ساعات الميادين بالعاصمة وغيرها من المدن مصابة بنفس الداء الذي أصاب ساعة محطة الإسماعيلية. ومما لا شك فيه أن هناك ميزانية مخصصة للصيانة، ولكن (أنتم تعرفون ما بعد لكن)! وشئ صغير آخر وهو خلو كثير من شوارع العاصمة وغيرها من المدن من ألواح معدنية مبين عليها اسم الشارع لترشد الغرباء وغير الغرباء. ولئن سألت المارة عن اسم الشارع لما أجابك أحد، وفي أحسن الأحوال قد يوجهك أحدهم يمينا ويوجهك الآخر يسارا. وإذا قدر لك بعد لأي أن تعثر على ضالتك فأمامك معاناة أخرى هي البحث عن رقم العقار الذي تقصده، فمعظم الأبنية تفتقد أيضا إلى لوحة صغيرة تنبئك عن أرقامها. وإن سألت أحد البوابين وعرفت منه رقم العقار المكلف بحراسته عله يكون لك عونا يرشدك إلى الرقم المبتغى فعليك أن تعد على أصابع إحدى يديك أو كلتيهما شريطة أن تحدد في أي اتجاه تتصاعد أو تتناقص الأرقام، خاصة إذا ما تخللت الشارع أرض فضاء ربما يُحتفظ لها برقم يجب أخذه في الحسبان. وكثير ما يلجأ السكان إلى كتابة رقم العقار الذين يقيمون فيه بطلاء ملون على أحد جدرانه يشوه المنظر العام. أليست هذه مسئولية رئيس الحي! ولكن! (وأنتم تعلمون ما بعد لكن). وقبل أيام رفعت سماعة الهاتف، فإذا بها خرساء... ظننت أن عطلا عارضا أصابها-كما عودتنا- وستعود إليها عافيتها وتنطق، ولكن خاب الظن وطال الصمت أيام ثم أسابيع ولم تتفضل علينا هيئة التليفونات بإعلامنا عن السبب. ثم علمنا من مصادر غير رسمية أن هناك "حركة" لتغيير الكابلات وأرقام الهواتف. توجهنا إلى أحد مراكز الاتصالات للوقوف على الأمر فإذا بالموظف المسئول يبلغني بأنه لا يعرف شيئا مثلنا تماما، وبأن هواتف المركز هى الأخرى معطلة. توجهنا إلى السنترال الرئيسي فطلب منا تحرير طلب بإعادة "الحرارة" إلى الهاتف! رضخنا وحررنا ثم أتتنا "الحرارة" ولكن برقم جديد علينا إبلاغه لكل أقاربنا ومعارفنا الذين طنوا أن مكروها أصابنا وحال دون الرد عليهم. والآن نعاني صعوبة في الاتصال الذي لا يتم إلا بعد تكرار إدارة القرص أو الضغط على أرقام نفس الرقم. والأشياء الصغار-كما قلنا- كثيرة جدا في حياتنا وتشغلنا عن الأشياء الكبيرة.. ولعلنا نلتقي مع صغار أخرى قريبا بإذن الله.