في مصر الآن ، رغم تعدد الوقائع والتوترات والدماء التي تسيل من الشرطة أو الجيش أو المواطنين أو المعارضين ، تسيطر قضية "ياسمين النرش" على خيال الرأي العام والفضائيات والصحف بصورة مفاجئة ومدهشة ، والحكاية باختصار ، أن السيدة "ياسمين" كانت مسافرة في مطار القاهرة في رحلة داخلية إلى الجونة على البحر الأحمر ، فتم منعها أو تعطيلها عن السفر لأسباب ما زالت غير مفهومة حتى الآن ، ياسمين التي تبين أنها من أسرة مليارديرية كبيرة ، والتي لم تتعود على أن يقول لها شرطي في بر مصر "تلت التلاتة كام" استشاطت غضبا بعد أن شعرت بالإهانة وفقدت أعصابها وقامت بالتعدي بالألفاظ والشتائم السوقية والدفع على الضابط الذي تولى مهمة المواجهة معها ، وكان لافتا أن الضابط يتعامل بهدوء أعصاب مثير ، ولم يوجه إلى السيدة أي ألفاظ نابية ولا غير نابية ولا أي اعتداء ، وهو ما أثار استغراب الجميع ، لأنه أمر غير معتاد . الواقعة تحمل الكثير من صفات "الملاحم" الاجتماعية في مصر ، أهمها أنها صدام مباشر بين "عضلات" البلد ، المؤسسة الأمنية ورأس المال ، والذي يجمع عليه الجميع أن "ياسمين" لو كانت سيدة عادية أو مواطنة "غلبانة" كان مسح بها بلاط مطار القاهرة المحلي والدولي قبل أن تنقل إلى السجن على ذمة قائمة طويلة من الاتهامات تبدأ من الاعتداء على السلطات العامة إلى تهديد السلم وربما الشروع في قتل الشرطي وربما في حالة أن تكون محجبة أن تلبس قضية إرهاب وانتماء إلى الجماعة الإرهابية ، ولكن لأن "ياسمين" من أسرة بالغة الثراء والنفوذ ، تعرف كيف "تبيع وتشتري" ، كانت المعاملة معها بهذا اللطف المتناهي وطول البال حسب ما يرى غالبية متابعي الموقعة . شريط الفيديو المتداول للواقعة لا يعرف أحد كيف تم تصويره ولا من صوره ، ولكن لن تحتاج إلى تفكير طويل لكي تعرف الجهة التي ينتمي إليها من صور الواقعة ، لأن التصوير في هذه الأماكن محظور إلا بتصريح ، ويبدو أن أكثر من شخص كانوا يصورون ، بما يعني أن "بنت الأكابر" وقعت في فخ ، غير أن "وصلة الردح" التي قدمتها بالصوت والصورة وتهديدها بخلع ملابسها ، والألفاظ البذيئة ، بل وقيامها بخلع جزء من ملابسها بالفعل ، هو سلوك يصعب أن يدافع عنه أحد أو يتعاطف معه ، كما أن ما لا يمكن إنكاره أن الكثير من رجال الشرطة في المطار يمتازون بالخلق الرفيع والأدب الحقيقي غير المتكلف ، وبالتالي فمن المحتمل أن يكون السلوك الذي تم مع "ياسمين" سلوك عادي من ضابط حرص على ضبط أعصابه لأقصى مدى ، إلا أن الشرطة "كمؤسسة" شعرت بالإهانة من كل ما جرى . الواقعة حدثت في 27 أبريل الماضي ، أي قبل أسبوع تقريبا من انتشارها فجأة على مواقع التواصل الاجتماعي بالصوت والصورة ، وهو أمر يطرح التساؤل عن سبب التصوير وتأجيل بثه كل هذه المدة ثم نشره ، والجهة التي قررت نشره بعد أسبوع رغم أنه في حوزتها من وقتها ، أيضا تكشف الواقعة عن عمق وقوة تأثير مواقع التواصل الاجتماعي ، سياسيا واجتماعيا وإعلاميا ، حيث فرضت الواقعة التي فجرتها تلك المواقع نفسها على الفضائيات والصحف ، حيث انقسمت الفضائيات تجاهها ، بين قلة تدافع عن السيدة وكثرة تهاجمها وتنحاز للشرطة ، أيضا ، وهذا هو الأهم ، أن ائتلافات للشرطة تنشر حاليا على مواقع التواصل الاجتماعي رسائل غاضبة تشتكي من أن "اللي ليه ضهر في البلد دي ما ينضربش على بطنه أو ما يتحبسش" ، في إشارة إلى أن القانون لا يطبق على "أصحاب النفوذ" في البلد ، وهي لفتة غرائبية بامتياز ، لأن المجتمع عادة يشتكي من نفوذ الشرطة ومن قدرة منتسبيها على الإفلات من سيف القانون على حساب المواطن في أي واقعة اشتباك أو احتكاك ، الآن الشرطة هي التي تشتكي من "القهر" ، في إشارة إلى أن "رأس المال" في مصر يمكنه أن يشتري كل شيء ويقهر القانون وحراسه . لا يعرف أحد حتى الآن إن كانت "ياسمين" محبوسة على ذمة القضية أم أنها في منزلها ، الشرطة تؤكد حبسها وأسرتها تقول أنها في بيتها وأنهم سيعقدون مؤتمرا صحفيا قريبا ينشرون فيه تفاصيل لم تنشر عن الحادثة ، ومحضر الشرطة الذي عرض على النيابة وجه لياسمين تهمة حيازة مائتي جرام من مخدر الحشيش ، والسيدة ردت بأن الشرطة "دست" لها الحشيش "لتلبيسها" قضية بعد إهانتها لأحد رجالها ، والرأي العام منقسم بين متعاطف معها ومتحامل عليها ، وقطاع ثالث يؤكد أن تسريب الشريط وإثارة الضجة هو من باب "شفت العصفورة" الذي يستخدم عادة لصرف اهتمام الرأي العام إلى قضايا هامشية مختلقة من أجل تضليله عن متابعة قضايا وطنه الأكثر خطورة وأهمية .