ولد كفيفا، لكنه امتهن عملا يصعب على الكثير من المبصرين.. تلك مفارقة صنعها الصحفي الصومالي عبد الفتاح كلجعل (28 عاما)، عندما تخطى إعاقته بإصرار وعزيمة كبيرين، ورسم لنفسه طريقا في عالم القلم والمعلومة، في بلد عربي من أكثر البلدان انتهاكا لحقوق الصحفيين. بعد أن صار واحدا من فريق عمل إذاعة "غوب جوك"، وهي من أكثر الإذاعات جماهيرية في الصومال، متحديا كل العوائق التي اعترضت حلمه، صنع كلجعل (اسم بالصومالية الدارجة يعني بالعربية "المحبوب") حالة ربما ينطبق عليها قول الشاعر السوري الضريرُ نصر علي سعيد: "كم من ضريرٍ مبصرٍ متوهّجٍ.. يعطي ويعطي والمدى وهّابُ/ وترى ألوف المبصرين بلا هدىً.. لكأنما فوق العيون حجابُ". بابتسامة عريضة تعكس حبا لا ينضب لمهنته، يقول كلجعل لوكالة الأناضول: "اكتشفت أنه لاشيء يعلو العزيمة ولاشيء مستحيل في الحياة". هو يرى أن "الصعاب والمشاكل تأتيك من كل مكان لتختبر إرادتك، وقبل أن التحق بالعمل في الصحافة، تقدمت لعدد من وسائل الإعلام المحلية بطلب وظيفة، إلا أن الجميع كانوا يشككون في قدراتي في العمل بهذا المجال، وينصحونني من باب الشفقة، بالبحث عن عمل آخر بعيدا عن الإعلام لأنه مهنة المتاعب والمخاطر، لكن في داخلي كانت إرادة الحياة أقوى من كل شيء". كلجعل، المتزوج وله من الأبناء ثلاثة، يتابع: "في سبيل تحقيق حلمي، وبعد أن فشلت في إيجاد عمل في العاصمة (مقديشو)، سافرت إلى بلدوين (350 كم شمال العاصمة) في أواخر عام 2003، بحثا عن حظي في مدينة تقل فيها الخبرات الصحفية". وفي المدينة البعيدة وجد ما يتمناه، حيث يقول: "التقيت برئيس إذاعة (دربن) المحلية، التي كانت حينئذ قيد الإنشاء، وقدمت طلبا للعمل فيها صحفيا، فوافق بدون شروط، فأصبحت مذيعا ومعدا للبرامج في غضون شهور، بعدها كلفني رئيس الإذاعة بشغل منصب رئيس الموظفين، وتلك هي أولى خطواتي وبداية بزوغ نجمي في عالم الصحافة المسموعة". بهذا العمل الإذاعي يرى كلجعل أنه "تخطى الإعاقة"، بل ويزيد: "تلقيت بعد التحاقي بإذاعة دربن، عدة طلبات للعمل في محطات إذاعية مختلفة، وبدأ مشواره الإعلامي يرى النور من جديد، وتنقلت من محطة إلى أخرى، وانضممت أخيرا إلى إذاعة غوب جوك، حيث أقدم برنامجين، أحدهما يخص أخبار مجلس الشعب (البرلمان)، والآخر يخص ذوي الاحتياجات الخاصة".
والصومال، الذي يعاني منذ سنوات قتالا دمويا بين القوات الحكومية وحركة "الشباب المجاهدين" المتمردة، هو من أكثر البلدان خطرا على الصحفيين، حيث قتل ثلاثين إعلاميا بين عامي 2011 و2014، وتعرض العشرات لاعتقالات تعسفية، بحسب الاتحاد الوطني للصحفيين الصوماليين (غير حكومي). كل صباح، ومنذ بداية عمله في "غوب جوك"، يقطع كلجعل نحو كيلومترين سيرا على الأقدام إلى مقر عمله، دون مساعدة من أحد ودون عصا المكفوفين. بعدها ينطلق إلى أحياء العاصمة، والمكاتب الحكومية، في رحلة بحث يومية عن الخبر الصحفي الذي بات خبز حياته، في بلد يوجد به نحو 250 ألف كفيف، معظمهم في الأقاليم الجنوبية، بحسب تقديرات غير رسمية. وإلى جانبه عمله معدا ومقدما للبرامج، يتقن كلجعل استخدام بعض برامج الحاسب الآلي (الكمبيوتر)، حيث يقوم بنفسه بإعداد وإنتاج المقابلات بطريقة لا يتقنها عادة العاملون في الإذاعة. ويدهش هذا الصحفي الصومالي زملائه عندما يتجول بين المكاتب وغرف الأخبار والتحرير والإدارة، وكأنه لا يعاني فقد البصر.
وكغيره من الصحفيين الأسوياء، يستخدم كلجعل هاتفه الجوال ويتصل بالمسؤولين والأقارب، ويتسلم الرسائل الصوتية ويرد عليها، بحثا عن الأخبار والمعلومات. الكثير من الزملاء يطلقون على كلجعل لقب "الذاكرة المتنقلة"، فهو يحفظ أرقام هواتف العديد من أعضاء البرلمان والمسؤولين الحكوميين، في البلد الواقع بمنطقة القرن الأفريقي ويسكنه حوالي 10.4 مليون نسمة. ومنذ طفولته والصحافة هي الهواية المفضلة لكلجعل، فبعد اتمامه المرحلة الثانوية (من التعليم الأساسي)، كان يطمح إلى استكمال مشواره التعليمي، لكن لم يحالفه الحظ للالتحاق بالتعليم الجامعي؛ بسبب غياب وسائل التعليم للمعاقين في الجامعات المحلية، لكنه دوما يؤمن بأن الطريق ليس موصداً أمامه. وبحسب زميله في الإذاعة أويس حسن، فإن كلجعل "تخطى الإعاقة البصرية معنوياً، حيث يزاول عمله بدون عائق، وكأنه من المبصرين.. هو رجل لطيف ومحبوب بين زملائه في العمل". أويس يمضي قائلا إنه "في السابق كنت أسأل كيف يمتهن هذا الكفيف مهنة المتاعب والمخاطر، وفي هذا البلد، لكن بعد مدة، وبعدما رأيته وهو يتجول في الشوارع ويحضر المؤتمرات الصحفية وجلسات البرلمان دون أن يساعده أحدا، أدركت أنه في عالم آخر لم يبلغه المبصرون بعد.. إنه عالم قوة الإرادة الحقيقية". كلجعل يعزي كل هذا النجاح إلى أمه "مريمة"، التي يقول عنها: "منحتني الثقة الكاملة في نفسي، ووهبتني معاني الحياة، وعلمتني كيف يتم تذليل الصعاب وتخطى الإعاقة، حتى اكتلمت قصة نجاح يحققها فقط أصحاب الإرادة والعزيمة". الأم مريمة، بدورها، ونبرات صوتها يملؤها الفرح، تقول للأناضول: "ابني تمكن من تخطى الإعاقة بكل معانيها، فاختار أن يشكل أسرته الخاصة، ويعتمد على نفسه دون أي مساعدة من أحد، بدلاً من أن يصبح متطفلاً وعبئاً على الآخرين".