بعد أن تغربت 27 عامًا خارج إثيوبيا، وراقبت كيف تُشوَّه صورة بلادها في الإعلام الغربي، قررت سابيلا بلاينيش أباي أن تصنع التغيير بنفسها، فعادت إلى موطنها، وأنفقت مدخرات عمرها لتأسيس مركز ثقافي ومتحف قومي تنصهر فيه عادات وتقاليد شعبها على اختلاف مشاربهم، لتعزيز تاريخ وثقافة وتراث بلادها. "أباي" استطاعت أن تجسد إثيوبيا في صورة مصغرة.. "ليتل إثيوبيا"، كما يطلق على معرضها، الذي أسس في ديسمبر/ كانون 2004، ولا تتجاوز مساحته 950 مترا مربعا، ويقع في قلب العاصمة أديس أبابا، ويعكس الوجه الأخر للبلاد التي كان يعتبرها كثيرون، أرضا لا تعرف سوى الصراعات والنزاعات، ويعاني مواطنوها الفقر، والجهل، والمرض.
ويجسد هذا الصرح الثقافي صورة البلاد التي تحتضن أكثر من 83 قومية، تمتد عبر 9 أقاليم تزخر بالتراث والتاريخ الحضاري، الذي امتزجت فيه تقاليد وعادات ومعتقدات أكثر من 90 مليون إثيوبي في وطن يضرب بتاريخه عبر القرون، فشكل حضارة انصهرت فيها الديانات المسيحية بشتى مشاربها، والإسلامية منذ انطلاقتها من الجزيرة العربية عبر الهجرتين الأولى والثانية لأصحاب خاتم المرسلين "محمد" صلى الله عليه وسلم، الذين حطوا رحالهم في قرية النجاشي التي تقف شاهدة على هذا التاريخ بإقليم التقراي شمالي البلاد.
وفي مقابلة مع وكالة الأناضول، روت السيدة "أباي"، قصة تأسيس المركز الثقافي، الذي أطلقت عليه "برهان إثيوبيا"، وهو ما يعني بالأمهرية "الوجه المشرق" لإثيوبيا.
وقالت "أباي"، إن "الهدف من تأسيس المركز، هو الحفاظ على التراث الغني الذي تزخر به إثيوبيا، وتعزيز تاريخ البلاد من أجل تعليم الأجيال القادمة ثقافة شعوب وقوميات إثيوبيا، لتفخر بما لديها من حضارة، وقيم ثرية لا يعرفها الكثيرون".
وأوضحت أنها سعت لإظهار "الوجه الآخر من إثيوبيا لبقية العالم منذ 27 عاما، عندما كانت تعيش في مدينة بيرو شمال الولاياتالمتحدة".
وأضافت: "قررت أن أعكس الوجه الآخر لإثيوبيا بسبب الصورة التي يحملها الأخر عن بلادنا وكأنها أرض للمجاعة والحرب الأهلية لا شيء آخر، وهذا يخلق دائما الألم في نفوس جميع الإثيوبيين، الذين يحبون بلادهم".
وتابعت: وعلى غرارهم ظل يؤلمني الأمر، منذ أن قادتني الصدفة إلى التعرف بشخص عبر حفل حضرته في بيرو.
ومضت "أباي"، قائلة: بينما كنت في حفل مع زوجي الهولندي بمدينة بيروالأمريكية، تعرف علي شخص وسألني عن جنسيتي فقلت له أنا من إثيوبيا، فرد: أهنئك لأنك هنا بيننا حية، فواصلي استمتاعك بالحفل.
واستدركت بالقول، لكن استفزني الموقف، فسالته لماذا؟ فقال لي: هل تعلمين كم فردا ماتوا اليوم في بلدك ؟ قلت له: لا، رد علي أكثر من 100 شخص.
وعندما سألته، كيف عرفت ذلك؟ أجاب دون مراعاة مشاعرها: "هذه هي الصورة التي نعرفها عن إثيوبيا".
وأردفت: ضايقني الأمر بشدة، وطلبت من زوجي أن نعود إلى المنزل، وعشت في كآبة، وحزن لفترة طويلة، حتى قررت أن أعمل من أجل محو هذه الصورة القاتمة.
وأوضحت "أباي"، أن "إثيوبيا ليست مجرد أرض للمجاعة والحرب الأهلية، وإنما هي بلد له ثقافة غنية وتقاليد يعود تاريخها إلى أكثر من 3000 سنة"، مضيفة: "لقد قمت بتأسيس هذا المركز لإظهار الوجه الآخر لإثيوبيا بصورته المعروفة لكل بلد في العالم".
وأشارت إلى أنها تنظّم العروض الثقافية المختلفة في أجزاء مختلفة من العالم، بما في ذلك المكسيك، وواشنطن دي سي، واسكتلندا، واليونان، ونيجيريا.
ومن هنا بدأت قصة هذا المتحف والمركز الثقافي الذي تملكه "أباي"، ويعرف باسم "برهان إثيوبيا"، أو "ليتل إثيوبيا".
يستقبل المركز الزائرين ببوابته التي تجسد قصة البوابات الخمس "لجدار ليقول"، وهي إحدى شواهد التاريخ الإسلامي بإقليم هرر الإثيوبي (510 كلم شرقي العاصمة)، ويعتبر إحدى المواقع التراثية الإثيوبية المسجلة في "يونسكو"، إلى جانب مجسد لدرع ورمح يمثلان رمزين وطنيين لإثيوبيا باعتبارهما أدوات ساعدت في صون البلاد من الأعداء.
وعند المرور من البوابة الرئيسية للمركز، إلى اليمين لوحة تجسد معركة "عدوة" التي تصدى فيها المواطنون للغزو الإيطالي عام 1896، لتبدأ بعدها صور الرؤساء الذين تعاقبوا في حكم البلاد من الرئيس "تيدروس" (1868-1855)، مرورا بعهد الرئيس "قرما ولدي جيورقيس" (2001 -2013)، ورئيس الوزراء الإثيوبي الراحل "ملس زناوي" (1995-2001) إلى جانب صور القادة العسكرين البارزين في تاريخ البلاد.
وعلى الطرف الآخر من المدخل، يتساقط شلال اصطناعي يمثل الأنهار الإثيوبية الكبيرة مثل "أباي" أو "النيل الأزرق"، ونهر "تكزي"، و"جيبي"، و"أبي شبيلي"، من بين أنهار أخرى.
ثم ترى قرية نموذجية لإقليم "العفر" (شمال شرق) باعتباره مهد أول هيكل للإنسان "لوسي"، ليبهرك التنوع الثقافي، والتسامح الديني في أبهى صوره من خلال اللوحات الدينية الاسلامية ل"مسجد شيخ حسين"، بإقليم الأرومو، و"مسجد النجاشي" بإقليم التقراي، وبينهما صورة السلطان على فرح العفري، الذي يمثل أحد الرموز الإسلامية بأديس أبابا.
يقابل هذه اللوحات صور للقساوسة من مختلف الكنائس الإثيوبية، بينهما ممر يعبر عن التسامح الديني والتمازج الاجتماعي الذي تعيشه الشعوب والقوميات الإثيوبية.
وهناك نسخة طبق الأصل من قلعة "غوندار"، التي تمثل إحدى تراثيات الدين المسيحي بإقليم الأمهرا (740 كلم شمال غربي العاصمة)، وهي مسجلة بمنظمة يونسكو كغيرها من معالم التراث العالمي.
وإلى جانب القلعة، يظهر في الجزء العلوي من الجدار مجسد لمسلة مدينة "أكسوم"، وهي إحدى معالم التراث العالمي المسجلة من قبل يونسكو، وتعتبر مدينة "أكسوم" بإقليم التقراي مهد للحضارة الإثيوبية القديمة، والمنازل لكنيسة سانت "ماري صهيون".
أما غرف المنزل، فتحولت إلى معرض تراثي، يضم كل المقتنيات التي يستعملها الإثيوبيون من أدوات زينة، وأواني منزلية ومكونات البيت لمختلف الشعوب والقوميات الإثيوبية، حتى أن المعرض يحتوى نموذج لبازار قديم يحتوى على أثاث محلي الصنع.
ويضم المعرض، "القطية" الإثيوبية، وهي غرفة تبنى من جريد وسعف النخيل، وأخشاب البان التي تتوفر في أغلب أقاليم إثيوبيا، إلا أن بناء هذه "القطية"، يختلف من إقليم لآخر من حيث الشكل ومواد البناء.
وتمثل "القطية" الغرفة الرئيسية بالبيت الإثيوبي، الذي غالبا ما يبني من سور عظيم، يتوسطه الغرف والوحدات الأخرى.
واستأنفت "أباي" حديثها قائلة: "منذ 10 سنوات انتقلت إلى أديس أبابا، وبدأت نشاطي ببناء المركز في هذا البيت، الذي تبرعت به صديقتي الفاضلة أماريش، واستعنت بالعديد من المهندسين المعماريين والمصممين معي، وركزت على المعماريين من بلدي، وهم العمود الفقري لعملي".
وأعربت عن استغرابها لاستيراد الأثاث المنزلي والأواني، بالقول: "أنا لا أفهم لماذا نحن نستورد الأثاث المنزلية والأواني، ولدينا كل الإمكانات والموارد والمنتجات المحلية".
وأضافت "مشكلتنا تكمن في عدم تطوير ما لدينا، لماذا لا نبني فنادقنا على أساس تصميم المنازل التقليدية. وأنا متأكدة من أن الضيوف الأجانب يفضلون الفنادق المؤسسة على الطريقة التقليدية عن تلك المزودة بالمواد المستوردة من الخارج".
ولعل جهود "أباي" في تأسيس المركز تقف إلى جانبها أياد بيضاء أخرى، استشعر أصحابها أهمية المشروع ودوره مثل صديقتها "أماريش تاديني"، التي منحتها منزلها الذي ورثته عن والديها هدية خالصة لمشروع إنشاء المركز الثقافي، الأمر الذي شكل نقطة تحول في انطلاقة "أباي" بمشروعها، على حد تعبيرها.
من جانبها، قالت "أماريش": "التقيت ستيلا قبل 23 عاما في واشنطن، وأخبرتني بفكرتها التي تهدف إلى تعزيز 3000 سنة من التاريخ، والثقافة وأنا دعمت رؤيتها.
وأضافت: "نحن فقراء، ولكن يجب أن نقوم بدورنا نحو مجتمعنا، بما نستطيع من أجل نعكس الوجه الآخر إلى العالم كله".
معربة عن امتنانها لصديقتها، اختتمت حديثها "أباي" بالقول: أنا فخورة وممتنة لصديقتي سابيلا لفكرتها الإنسانية والوطنية التي جعلتني جزءا منها".