كان الراحل الكريم الشيخ محمد الغزالى يطلق على السياسة التى لا تنطلق من القيم والأخلاقيات أنها سياسة لا دين لها، وهى التى تتخذ من الفلسفة الميكافيلية منهجًا لها حيث تبرر فى سبيل تحقيق الغاية أية وسيلة. أما عندنا نحن المسلمين فإن الغايات الشريفة تتخذ لها أشرف الوسائل، كما أن الوسائل لها حكم مقاصدها، وما يحقق أشرف المقاصد هو أشرف الوسائل بلا ريب، والله تعالى تعبدنا بالوسائل كما تعبدنا بالغايات، يقول العز بن عبد السلام (للوسائل أحكام المقاصد، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هى أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هى أرذل الوسائل) (1). وعلى هذا فالسياسة إما أن تتدين أى تنطلق فى مواقفها وتصرفاتها من منظومة القيم والأخلاقيات الإسلامية، وترتكز على المبادئ والأصول الشرعية، فتصبح سياسة شرعية ترعى حق الله ثم حق الرعية، وفى هذا قرر الفقهاء أن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، أى مصلحة الأمة والجماعة لا مصلحة الحاكم والنظام، وإما أن تطلق الدين طلاقًا بائنًا بينونة كبرى، لا رجعة معها، وتعلن صراحة هذا، حتى لا تتمسح بالدين حين تحتاج إليه ليستر عيوبها ويوارى مثالبها، ويكسب تصرفاتها شرعية، ويمنح وجودها قبولا لدى الجماهير، وبذلك تتخذ الدين ألعوبة تهرع إليه حين تفزع، وتعتبره ورقة توت تخفى به سوءتها وتستر به عورتها. ومعنى تديين السياسة أى خلق مناخ سياسى نظيف، أى تنطلق السياسة من الأخلاق، وترتكز على المبادئ والأصول الشرعية، وألا يفصل بين الأفعال والأخلاق ولا بين التصرفات والقيم. إن تديين السياسة يعنى فيما يعنى (العدل فى الرعية، والقسمة بالسوية والانتصار للمظلوم على الظالم، وأخذ الضعيف حقه من القوى، وإتاحة فرص متكافئة للناس، ورعاية الفئات المسحوقة من المجتمع كاليتامى والمساكين وأبناء السبيل ورعاية الحقوق الأساسية للإنسان بصفة عامة ، إن الدين إذا دخل فى السياسة يعنى دخول الموجه للخير، الهادى إلى الرشد، المبين للحق، العاصم من الضلال والغى، فهو لا يرضى عن ظلم، ولا يتغاضى عن زيف ولا يسكت عن غى، ولا يقر تسلط الأقوياء على الضعفاء، ولا يقبل أن يعاقب السارق الصغير ويكرم السارق الكبير) (2). كما أن الدين (يمنح رجال السياسة الحوافز التى تدفعهم إلى الخير، وتقفهم عند الحق، وتشجعهم على نصرة الفضيلة، وإغاثة الملهوف، وتقوية الضعيف، والأخذ بيد المظلوم ضد الظالم حتى يرتدع عن ظلمه. كما يمنح الدين السياسى الضمير الحى أو النفس اللوامة التى تزجره أن يأكل الحرام من المال، أو يستحل الحرام من المجد أو يأكل المال العام بالباطل، أو يأخذ الرشوة باسم الهدية أو العمولة] (3). أما السياسى حين يعتصم بالدين، فإنما يعتصم بالعروة الوثقى، ويحميه الدين من مساوئ الأخلاق، ورذائل النفاق، فإذا حدث لم يكذب وإذا وعد لم يخلف، وإذا اؤتمن لم يخن، وإذا عاهد لم يغدر، وإذا خاصم لم يفجر، إنه مقيد بالمثل العليا ومكارم الأخلاق(4). وإن سيرة السياسى الأعظم صلى الله عليه وسلم لتبين ذلك بجلاء، لقد رفض النبى الكريم أن يستعين ببعض أصحابة على المشركين لأنهم أعطوهم عهدًا ألا يساعدوا محمدًا صلى الله عليه وسلم. فقد روى الإمام مسلم بسنده عن حذيفة بن اليمان أنه قال: " ما منعنى أن أشهد بدرا إلا أنى خرجت أنا وأبى "حُسَيل" قال: فأخذنا كفار قريش فقالوا : إنكم تريدون محمدا ، قلنا : ما نريده ، ما نريد إلا المدينة فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لنصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه ، فأتينا رسول الله فأخبرناه الخبر فقال : " انصرفا، نفى بعهدهم ونستعين الله عليهم"(5). وأنكر النبى صلى الله عليه وسلم فى إحدى الغزوات قتل امرأة وقال: " ما كانت هذه لتقاتل"(6). كما نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان(7). ومن هذه الأخلاقيات وتلك المُثُل كانت تنطلق السياسة فى الإسلام فلا غدر، ولا خداع، ولا خيانة، ولا كذب، ولا إخلاف وعد، ولا نقض عهد.[أما تسمية الخداع والكذب والغدر والنفاق " سياسة " فهذا مصطلح لا نوافق عليه، فهذه سياسة الأشرار والفجار، التى يجب على كل أهل الخير أن يطاردوها ويرفضوها](8). وإن الذين يقبلون بفصل الدين عن السياسة، وتجريد السياسة من الدين إنما يعنى ذلك (تجريدها من بواعث الخير، وروادع الشر، تجريدها من عوامل البر والتقوى، وتركها لدواعى الإثم والعدوان) (9). إن علاقة الدين بالسياسة كعلاقة الطب بالإنسان، فهى علاقة تطبيب، وعلاقة وقاية، وليست علاقة تنافس وصراع(10). هوامش: (1) راجع قواعد الأحكام فى مصالح الأنام ص 39. (2) الدين والسياسة ص 79 (3) الدين والسياسة ص 80 (4) الدين والسياسة ص 81 (5) رواه مسلم فى الجهاد والسير باب الوفاء بالعهد, وأحمد فى مسنده، مسند الأنصار، حديث حذيفة بت اليمان. (6) أبوداود فى الجهاد باب فى قتل النساء، وابن ماجه فى الجهاد، ومسند أحمد، مسند المكيين حديث رباح بن الربيع، ذكره الألبانى وقال فى السلسلة الصحيحة رقم (701): وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات. ج2 ص 200. (7) رواه البخارى فى الجهاد والسير باب قتل النساء فى الحرب، ومالك فى الموطأ فى الجهاد باب النهى عن قتل النساء والولدان فى الغزو. (8) الدين والسياسة ص 82. (9) الدين والسياسة ص 82. (10) الفكر الإسلامى وقضايانا السياسية ص 35. * مدير مكتب الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين بالقاهرة