"داعش" تنظيم انتحاري بطبيعة ممارساته، فهو غير قابل للعيش طويلا، بل يكتب بنفسه نهايته، حتى وإن ظل باقيا على قيد الحياة لفترة من الزمن. والدولة التي أعلن التنظيم عن قيامها باسم "الدولة الإسلامية" هي بلا عمر، ولا وجود طبيعي، ولا تعايش، بل هي دولة طارئة مشوهة لم يعترف بها أحد، وهي كيان يتجمع فيه أنصارها لتكون في تلك البؤرة من الأرض نهايتهم، الداخل فيها مفقود، والخارج منها أيضا حيث ستضيق عليه الأرض بما رحبت، فلا أحد سيقبل عنصرا داعشيا هاربا، أو حتى تائبا، فالتوجس سيظل قائما تجاهه. تُولد الدول لتعيش، وهذه الدولة وُلدت بشكل قسري وغير طبيعي لتتحول إلى قبر كبير لكل ساكنيها والوافدين إليها الراغبين في جز الرؤوس، وشي الأجساد في النار، وتصدير أبشع أشكال الرعب للعالم، ومن شديد الأسف أن كل ذلك التدمير والتشويه الممنهج للإنسان والإنسانية يكون منسوبا للإسلام، لا دين يتعرض لكل هذه الإساءات، مثل دين الإسلام، وعلى أيدي من ينسبون أنفسهم إليه، ويظهرون أنفسهم كأنهم أهل الإيمان الحق وغيرهم إما في ردة أو كفر، في الأديان الأخرى ظهرت جماعات تقوم بممارسات فظيعة على طريقة "داعش"، لكن مع جبروت الميديا اليوم فإن فظائع الأمس لن يكون لها ذكر ولا توثيق وتسجيل مقارنة بانتهاكات "داعش" المسجلة صوتا وصورة. ليس جديدا قطع الرؤوس، ولا حرق البشر أحياء، لكن فعل ذلك على الطريقة الداعشية بالعرض والإخراج السينمائي والمؤثرات البصرية والصوتية جعل الآم الماضي في الذبح والحرق لاتُذكر بجوار أفاعيل هؤلاء، فلا أحد من الإنسانية في طول الأرض وعرضها، ومن مختلف الأجناس والعقائد والألوان والإثنيات يمكن أن ينسى الدقائق الرهيبة التي تسبق الشروع في الذبح أو الحرق للبشر، ولا أحد منهم سيسأل أو سيأتي بكتب ومؤلفات ليفهم هل هذا هو الإسلام حقا، أم هو الافتراء عليه ، ولا أحد سيقول إن قادة إسرائيل أصحاب الدولة الطارئة هى الأخرى، والتي لا مستقبل لها يستفيدون من تلك المشاهد ليزيفوا حقائق إرهابهم الرسمي ضد الفلسطينيين والعرب، وهو إرهاب دولة منظم وممنهج وبعلم المجتمع الدولي الذي يصمت عنه، ولو هناك عدالة دولية لكان واجب على العالم أن ينتفض ضد إسرائيل، كما ينتفض ضد "داعش"، لكنه عالم معصوب العين عن إسرائيل الصهيونية ، عيونه متسعة على الإرهاب المتدثر بالعباءة الإسلامية. من ارتكاب الفظائع ضد البشر، إلى ارتكاب الفظائع ضد الأثر، وإزالة التاريخ المادي الإنساني من الوجود فيما يقوم به "داعش" اليوم من حرق الكتب في مكتبة الموصل، إلى تدمير الآثار في متحف المدينة وإزالة كل شكل من أشكال الحضارة والتراث والتاريخ من الوجود، وبالتتابع ستكون تلك الممارسات قائمة في كل المناطق التي يسيطرون عليها في العراق وسوريا، وسيفعل ذلك اتباعهم في كل منطقة يستحوذون عليها هنا أو هناك. الإسلام دخل العراق منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام وكانت تلك الكنوز الأثرية موجودة فيه فلم يتم تحطيمها باعتبارها أصناما ستُعبد من دون الله، ومن يدخل الإسلام، ثم يعبد أحد تلك التماثيل باعتبارها صنما فإنه لا يستحق هذا الدين ، كما دخل الإسلام مصر، وكانت التماثيل وشواهد الحضارة الفرعونية قائمة، وعلم بها وشاهدها الفاتحون من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقتربوا منها، ولم يهدموها، ولم يهيلوا التراب عليها جيلا بعد جيل، وخلافة بعد خلافة، ودولة بعد دولة، حتى وصلت إلينا اليوم ونحن نشهد أوج الانفتاح العقلي والحضاري الذي يقود إلى الإيمان بالله من عظمة الخلق أرضا وسماء وبرا وبحرا، ومن الاكتشافات العلمية والكونية المذهلة التي تقطع كلها بأن لهذا الكون إلها واحدا أحدا خالقا عظيما، ورغم كل هذا التطور المذهل عقلا وحضارة يظهر بيننا من يعيدون عقولهم إلى عصور سحيقة من الظلمة والظلام ليزيلوا إرثا إنسانيا بحجة أنها أصنام يمكن أن تفتن الناس، أو يمكن أن تُعبد من دون الله. العالم كله مرة أخرى ينتفض على "داعش" ، كما سبق وانتفض على "طالبان" في 2001 عندما قامت بتدمير تمثالين في أفغانستان، ولم تعمر الجماعة ولا دولتها غير الطبيعية طويلا حيث أسقطها الأمريكان في إطار حربهم مع تحالف دولي على الإرهاب، وبغض النظر عن مدى شرعية تلك الحرب ونتائجها، لكن سقطت دولة "طالبان" سريعا لأنها لم تملك أيضا عوامل النمو والبقاء كدولة تتفاعل مع العالم الذي تعيش فيه، وتكون جزءا منه، ولا كحركة دينية وسياسية لأنها تصطنع لنفسها نسخة مشوهة من الدين لا تغري على الاجتذاب إليها، ولأنها لا تمارس سياسة تجعلها طرفا مقبولا في هذا العالم الكبير، ومثلها مثل "داعش" و"القاعدة" وغيرها من حركات دينية سابقة أو لاحقة تخاصم الإنسانية وتعادي العقل والمنطق والفطرة السليمة. مصير "داعش"، أو دولة ذلك التنظيم إلى نهاية، و"داعش" ليس ذلك التنظيم فقط، بل إن هذا النوع من الفكر موجود لدى أنظمة حاكمة تفتك بشعوبها مثل النظام السوري، ومثل حكومات العراق التي عمقت الحرب الطائفية والمظالم، وساهمت مع نظام دمشق في بروز "داعش"، ومازالت بغداد تصنع الدواعش مثل ما يسمى بقوات "الحشد الشعبي" ذات اللون الطائفي التي ترتكب فظاعات بحق المدنيين العراقيين وهي لاتقل عن فظاعات "داعش"، لكنها لا تستعرض بها، وهذا لا يفضح جرائمها، كما يفضح "داعش" نفسه بنفسه، وهذا التنظيم من حيث يريد إحداث الصدمة والرعب في القلوب فإنه يفجر كل يوم المزيد من الغضب تجاهه. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.