قبل صدور فيلم "سقوط الطائرة بلاك هوك"، وقبل أن تصبح الصومال الدولة الوحيدة في العالم التي تعيش بلا حكومة، كانت أول رحلة لي إلى هناك. هذه الرحلة غيرت حياتي تمامًا. حدث هذا في منتصف الثمانينات، عندما كانت الولاياتالمتحدة تدعم ديكتاتورًا من زعماء الحرب الذي يؤيد مصالحنا في الحرب الباردة، وذلك على حساب الحقوق الأساسية للإنسان. إنني، كناشط صغير ومتيقظ لازال في مرحلة التدريب، لم أستطع أن أتقبل فكرة استغلال حكومتي للمواطنين الصوماليين العزل كعرائس تحركهم على رقعة لعبة الشطرنج الإستراتيجية التي تلعبها، والتي لن تؤدي في آخر الأمر إلا إلى انهيار الدولة ونشوب حروب أهلية وانتشار المجاعات. وبعد مرور عشرين عامًا، تغير الخصم، ولكن المشكلة ظلت كما هي بشكل مثير للانزعاج. فلقد رأيت خلال رحلاتي الأخيرة إلى العاصمة مقديشو الدليل على دعم الولاياتالمتحدة لقادة الميليشيات من زعماء الحرب تحت مسمى عمليات مكافحة "الإرهاب". ومنذ بداية العام وحتى الآن، أودت المعارك حامية الوطيس بين زعماء الحرب المدعومين من قبل الولاياتالمتحدة والميليشيات الإسلامية في مقديشو بحياة المئات من الأشخاص كما تسببت في تشريد آلاف الأسر. والآن مُني "زعماؤنا" للحرب، وما يرتبط بهم من إستراتيجية مكافحة الإرهاب، بهزيمة منكرة من قبل الإسلاميين الذين تمكنوا من السيطرة على مقديشو. وبالتالي تم تقويض ما نسعى إليه على المدى القصير من العثور على أماكن المشتبه في انتمائهم للقاعدة تمامًا، كما تفاقم الخطر من قيام معقل آخر ل"الإرهابيين" الدوليين في الصومال. إن الوضع الراهن في الصومال من عدم وجود حكومة للبلاد يفسح المجال للقاعدة ولغيرها من القوى "التدميرية" للعمل هناك. وقد قال لي مؤخرًا رئيس أحد الدول المجاورة إن "الفراغ الحكومي يزداد اتساعًا، بما له من تداعيات سلبية على الصومال. إنه يزيد من إمكانية استخدام "الإرهابيين" الدوليين للتركيبات التي تملأ ذلك الفراغ، وذلك لإقامة معقل آمن لهم ولتلبية أغراضهم اللوجيستية". ويعود منشأ تنظيم القاعدة جزئيًا إلى الصومال، حيث استطاع تنظيم صفوفه وشن هجومين خطيرين في كينيا وتنزانيا من أرضها، فقد استهدف المسلحون السفارات الأمريكية والفنادق الأجنبية هناك، كما حاولوا إسقاط طائرة ركاب إسرائيلية باستخدام صاروخين أرض جو، ولكنهما انحرفا قليلاً ولم يتمكنا من إصابة الطائرة. كما تم إحباط مخطط للهجوم بطائرة على السفارة الأمريكية في كينيا. يذكر أن هناك في منطقة شرق إفريقيا الكثير من الأهداف "السهلة"، وقد أشارت المخابرات إلى أنه يجري حاليًا التخطيط لهجمات جديدة. وتعد الصومال هي حلم القاعدة لتجنيد عناصر جديدة، بما بها من انتشار البطالة، والقيود المفروضة على السفر، وعدم وجود حكومة أو استثمارات أجنبية بها، لذا فإن الشاب الصومالي قد يتجه إلى "الإرهاب" سعيًا وراء المال أو في بعض الأحيان بسبب الفكر المشترك بينه وبين هذه الجماعات. هذا في حين أن المدارس التي تديرها الجمعيات الخيرية الإسلامية تقوم بتخريج أعداد كبيرة من الطلاب، والكثير منهم يدرس العربية بدلاً من الصومالية ولا يطمحون في الحصول على أي عمل هادف. كل هذه العوامل جعلت مهمة تجنيد عناصر جديدة مهمة سهلة بالنسبة لتجار المخدرات والميليشيات التي تتنازع على المصالح الاقتصادية، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة زعزعة الاستقرار في المنطقة وغرس بذور الأصولية. لقد أثبتت سياسة الولاياتالمتحدة لمكافحة "الإرهاب" في الصومال فشلها: فما زال زعماء تنظيم القاعدة في الصومال والتي تسعى الولاياتالمتحدة للقبض عليهم طلقاء حتى الآن، كما أن الإسلاميين الذين يوفرون لهم الحماية يتقدمون على الميليشيات المدعومة من الولاياتالمتحدة، كما اتضح من خلال أحداث هذا الأسبوع. وفي الوقت الذي ارتفعت فيه الأصوات التي توجه اللوم للولايات المتحدة ولزعماء الحرب بسبب القتال الدائر هناك، يميل الرأي العام في مقديشو إلى تأييد الإسلاميين. وفي شهر أبريل سعت الولاياتالمتحدة لتجربة أسلوب مختلف، حيث دعت زعماء القبائل والقادة السياسيين إلى كينيا لإجراء محادثات معهم وللحصول على دعمهم في تفكيك ذلك الملاذ الآمن للقاعدة. ولكن القتال اندلع بمجرد عودة القادة إلى مقديشو، الأمر الذي بدا وكأن أحد يدي الولاياتالمتحدة لا تدري مالذي تفعله اليد الأخرى. إن نجاح جهود مكافحة "الإرهاب" تتطلب من الولاياتالمتحدة ربط الخيوط السياسية والعسكرية معًا لتكوين نسيج إستراتيجي متسق لمزيد من الترابط. لقد أخبرني المسئولون الأمريكيون والمسئولون بالحكومات الأخرى في كافة أنحاء المنطقة أن الأهداف الطويلة المدى لمكافحة "الإرهاب" لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الاستثمار الأمريكي في عملية السلام الصومالية. ولكن وزارة الخارجية ليس لديها إلا مسئول سياسي دائم واحد فقط يعمل في شئون الصومال من دولة كينيا المجاورة، وقد تم نقله خارج المنطقة بسبب اعتراضه على سياسة استخدام الولاياتالمتحدة لزعماء الحرب نيابة عنها في الصومال. وتظل سلطة الحكومة الانتقالية الضعيفة بالصومال مقتصرة على مدينة بيداوا المركزية المتداعية، حيث لا زالت تكافح من أجل التغلب على الانقسامات الداخلية هناك. إن وجود حكومة فعالة قادرة على توفير الأمن يمثل سيناريو النصر بالنسبة للصوماليين والولاياتالمتحدة، وذلك لأن أجهزة الدولة سوف تتمكن من مواجهة الجريمة و"التطرف" وغيرها من العوامل التي تعرقل التقدم في البلاد. وبهذا سوف تصبح الصومال شريكًا حقيقيًا في الحرب على "الإرهاب"، على الرغم من سجلها الحافل بتصدير الاضطرابات. إن استمرار الولاياتالمتحدة في سياستها الحالية في الصومال يعني استمرار تعرض المصالح الأمريكية ومصالح الدول الأخرى في المنطقة لخطر العمليات "الإرهابية" التي يتم التخطيط لها من داخل تلك الدولة المتداعية. كما أن استمرار القتال بين العناصر الإسلامية وتحالف زعماء الحرب المدعوم من الولاياتالمتحدة سوف يولد الاستياء ويؤدي إلى تزايد الإقبال على الانضمام للجماعات الإسلامية، كما يقدم أرضًا خصبة لتدريب مزيد من الفدائيين. لهذا، فإنه ينبغي على الولاياتالمتحدة الآن أن تتدخل مباشرة وبشكل أكثر عمقًا في مجهودات إقامة حكومة صومالية، وهذا من أجل مصلحة أمننا القومي. الكاتب مستشار بارز بمجموعة الأزمات الدولية، وقد عمل بمجلس الأمن القومي أثناء فترة رئاسة كلينتون. المصدر: مفكرة الاسلام