التعامل مع المجتمع الدولي يختلف عن تعاملك مع المجتمع المحلي ، واللغة التي تستخدمها هنا لا تصلح للتسويق هناك ، والخطاب الإعلامي الذي يخدم عليك هنا قد يكون كارثة عليك هناك ، هذا ما ينبغي أن يستوعبه صانع القرار وصاحب القرار في مصر ، أقول هذا بمناسبة الحديث عالي الصوت للمسؤولين المصريين ، سواء رئيس الجمهورية أو وزارة الخارجية عن أنهم يقدمون مطلبا لمجلس الأمن الدولي للسماح بتشكيل قوة دولية للتدخل العسكري في ليبيا لبسط الأمن ومحاربة تنظيم داعش الإرهابي ، وأن مصر تضع المجتمع الدولي أمام "الحقيقة" والخطر ، المجتمع الدولي ليس في وارد الاستجابة للمطالب المصرية ولو بخطوة واحدة ، وهناك رؤية غربية تعتبر أن مصر مشغولة بمصالح أخرى أبعد من محاربة داعش وأسبق من جريمة قتل حوالي عشرين مواطنا مصريا في مدينة سرت على يد التنظيم حسب ما أعلن ، ودلل الإعلام الغربي على ذلك بتكرار هذه التصريحات المصرية المطالبة بالتدخل قبل شهور طويلة وقبل وقوع أي حوادث ضد مواطنين مصريين ، المجتمع الدولي ينظر للموقف المصري باعتباره امتدادا لصراع مصر مع تنظيم الإخوان المسلمين والذي يملك الحضور القوي في حكومة طرابلس وبرلمانها "المؤتمر الوطني" ، وهناك تحذيرات غربية ضمنية متعددة تم توجيهها لمصر بعدم التدخل في ليبيا ، لأن أي تدخل سيفجر الأوضاع بشكل أسوأ كثيرا مما هو عليه ويورط المجتمع الدولي في مستنقع إرهاب حقيقي خارج السيطرة . مصر تقدمت بطلب لمجلس الأمن ، ومن المفترض أن تنعقد جلسة غدا لمناقشة الوضع في ليبيا ، غير أن الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا ودول أخرى عقدوا اجتماعا أمس بخصوص الملف الليبي ، انتهوا فيه ببيان يذهب في مسار مختلف تماما عن المسار الذي تفكر فيه مصر ، وقال البيان الصادر عن القوى الغربية إن العملية التي تقودها الأممالمتحدة لتشكيل حكومة وحدة وطنية توفر الأمل الأفضل لليبيين لمعالجة التهديدات الإرهابية ومواجهة العنف وعدم الاستقرار الذي يعرقل عملية الانتقال السياسي والتنمية في ليبيا. وأكد البيان استعداد المجتمع الدولي التام لدعم أي حكومة وحدة وطنية تعالج التحديات الحالية التي تواجه ليبيا. وأشار إلى أن ممثل الأمين العام للأمم المتحدة الخاص لليبيا بيرناردينو ليون سيعقد اجتماعات خلال الأيام المقبلة لبناء مزيد من التأييد الليبي لتشكيل حكومة وحدة وطنية. وأعربت القوى الغربية في بيانها عن تشجيع كافة الأطراف بما في ذلك هؤلاء الذين على صلة بالمؤتمر الوطني العام السابق على انتهاز فرصة الانضمام إلى العملية التي تقودها الأممالمتحدة خلال الأيام المقبلة بروح بناءة للتوصل إلى توافق إذا كانوا يأملون في صياغة مستقبل ليبيا السياسي . هذا نص البيان ، وهو يعني أن المجتمع الدولي يرى أن هناك انقساما سياسيا في ليبيا لا يمكن معه الانحياز لطرف ضد آخر ، وأنه لا مستقبل ولا مكان لحكومة طبرق منفردة ، وأن الحل في حكومة وحدة وطنية تشمل الجميع ، مصر ما زالت في مربع أن حكومة طبرق والجنرال حفتر هم الشرعية ، والباقون خوارج أو إرهابيون ، وأن على المجتمع الدولي أن يمنح السلاح والعتاد لحكومة طبرق وميليشيات حفتر من أجل السيطرة وبسط الأمن ، والمجتمع الدولي يرى أن هذه الرؤية ستفجر ليبيا وتحولها لمستنقع إرهاب آخر كما حدث في العراق وسوريا ، وهذا يعني أن مصر تمضي عكس اتجاه الريح الدولي تماما بخصوص ليبيا . أيضا ، الجزائر أعلنت بوضوح كامل رفضها أي تدخل عسكري أجنبي في ليبيا ، وقال وزير خارجيتها رمضان لعمامرة أمس أن بلاده من حيث المبدأ ترفض أي تدخل عسكري في ليبيا وترى أن الحل هو في الحوار السياسي الذي ترعاه الأممالمتحدة ، وأهمية موقف الجزائر أنها تمثل الجار الآخر الأهم لليبيا وعلى حدودها مباشرة ، مثل مصر تماما ، وبالتالي فحديثها يقنع العالم بأن التهويل لمخاطر الإرهاب في ليبيا ليس كافيا لتبرير تدخل عسكري بأي درجة . من جهتها قالت الممثلة العليا لشئون السياسة الخارجية بالاتحاد الاوربي فريدريكا موغيريني في تصريحات للصحفيين في العاصمة الإسبانية مدريد أمس أنه لن يتم دراسة أي التزام أوروبي بأي عمل عسكري في ليبيا ، وكذلك قالت شبكة إيه بي سي التلفزيونية الأمريكية إن الخبراء الأمريكيين يرون أن طلب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي باستصدار قرار من الأممالمتحدة يسمح بتدخل دولي في ليبيا بأنه قد يُدخل ليبيا في أزمة أعمق ، وكان رئيس الوزراء الإيطالي قد تراجع عن حماسته للتدخل بعد وضوح الموقف الأمريكي والأوربي . هذا كله يعني أن المسار الذي تتحرك فيه مصر فيما يخص ليبيا هو أفق مسدود وخاسر ، وأن أي تحرك مصري منفرد سينظر له العالم بوصفه خرقا للقانون الدولي وتجاوزا في حق الأممالمتحدة ومجلس الأمن وهو ما يعرض البلاد لمخاطر كبيرة . لا يمكن أن تمضي السياسة المصرية في العناد وركوب الرأس في هذا الملف ، ولا بد من فتح قنوات اتصال مع كل القوى الليبية ومع الحكومة الأهم في طرابلس ورئاسة أركان الجيش الليبي التابع لها والمؤتمر الوطني ، ووقف الانحياز لمجموعة طبرق وميليشيات خليفة حفتر ، ودعم خطط الأممالمتحدة للتسوية السياسية ، فهذا وحده هو السبيل لتحقيق حضور مصري إيجابي وقوي في الملف الليبي وفي إعادة إعمار ليبيا ، كما أن هذا هو السبيل البديهي لحماية مصالح وأمن وحياة مئات الآلاف من المواطنين المصريين العاملين في ليبيا ، كثيرون منهم يعيشون هم وأسرهم هناك. على الرئيس السيسي أن يستوعب أنه سيكون مضطرا خلال وقت قصير للتعامل مع حكومات عربية يتمثل فيها أو حتى يقودها الأحزاب الإسلامية ، بما فيها الإخوان ، في ليبيا وتونس والمغرب وربما الجزائر وبلدان أخرى أيضا عما قريب ، وأن تجاهل هذه الحقيقة أو معاندتها فضلا عن محاربتها في هذه الدولة أو تلك ستعرض مصر سياسيا واقتصاديا وأمنيا وديبلوماسيا للاستنزاف المروع والخسائر الفادحة على مختلف الأصعدة ، والبلاد لا تملك الآن ترف هذا الاستعراض .